التكاتف ضرورة في مواجهة التناقضات: دعوة إلى الكتابة بمسؤولية واحترام

إبراهيم اليوسف
تمر بلادنا بمرحلة مفصلية، حيث تزداد الحاجة إلى التكاتف والتعاضد بين أبناء الشعب الكردي من جهة، وبينهم والشعب السوري عامة. في خضم هذه الأوقات الصعبة التي تتطلب جهودًا مشتركة من جميع الأطراف، يصبح من الطبيعي أن تظهر آراء متناقضة وأحيانًا متباعدة في ظل الظروف المعقدة. ولكن ما يزيد الأمور صعوبة هو تحول بعض النقاشات إلى ساحة من الشتائم والاتهامات المجانية، التي لا تسهم في الحلول بقدر ما تزيد من الانقسام والفرقة.
المؤسف في هذا السياق هو أن هناك من يتجه نحو التشهير، ويختار تجاوز الحوار النقدي البناء إلى الهجوم الشخصي. هناك من لا يكتفي فقط بطرح رأي مخالف، بل يتخذ من هذا الاختلاف ذريعة لإطلاق شتائم خارج معجم الأدب وعبارات لاذعة تفتقر إلى الأمانة الأخلاقية. وقد لمسنا هذا النوع من السلوك في الأيام الأخيرة، عندما شنّ كاتب هجومًا علي بسبب عبارة وردت في مقال لي، توهمها رداً عليه، رغم أني لم و لا أقرؤه البتة. فبدلاً من الحوار حول مضمون الفكرة أو طرح نقد بنّاء، أخذ الموضوع منحى شخصيًا، وأصبح الهدف هو إهانة الآخرين وتقليص مساحة الاختلاف.
الغريب في هذا الهجوم أن صاحبنا لم يتوقف عند نقطة النقد الفكرية أو الثقافية، بل اتجه إلى اتهام أكثر من مائة كاتب شاركوا في بيان موجه إلى السيد أحمد الشرع بـ”المنافقين”. وهو وصف رخيص وغير مسوغ، يعكس خللاً في تقدير المواقف. ترى: هل من المقبول أن يتحول الحوار السياسي والفكري إلى ساحة لاستعراض القوة على حساب قيم الاحترام والتقدير؟ هل من الممكن أن يتحول الاختلاف الفكري إلى سبب للتهجم على كرامة الآخرين واتهامهم بأبشع الأوصاف؟
البيان الذي وقعه 170 كاتبًا، منهم أكاديميون ومثقفون من مختلف التوجهات، لم يكن مجرد تظاهرة سياسية أو موقف عابر. بل كان تجسيدًا لرؤية مشتركة لمرحلة سياسية حساسة، ومُعبّرًا عن قناعات حرة لا تتبع أية أجندات خارجية أو محلية. البيان لم يكن تعبيرًا عن دعم لأي جهة بعينها، بل كان خطوة نحو تأكيد الموقف الكردي المشترك، وإبراز القضايا الإنسانية في ضوء التطورات الحالية في سوريا.
لكن ما أثار الاستغراب هو أن بعضهم اختار التركيز على تفاصيل هامشية، مثل عبارات “السيد” و”المحترم” الموجهة إلى شخص الشرع، وهو ما كان بمثابة إشارة تحترم البروتوكولات المتبعة في العلاقات الدولية. إن هذا التركيز على التفاصيل الصغيرة لا يخدم أبدًا مضمون البيان، بل يحرف الأنظار عن الأسئلة الكبرى التي تطرحها المرحلة. السؤال الذي كان ينبغي أن يُطرح هو: ماذا نقدم لشعبنا الكردي في هذه المرحلة؟ كيف نساهم في بناء مستقبل سوريا على أسس العدالة والحرية؟
الكاتب الذي شن الهجوم لم يقتصر على ذلك، بل وجه إساءة شخصية إلي، رغم أنني كنت من أوائل الكتاب الذين انتقدوا السياسة الحالية للقيادة الجديدة. النقد الذي وجهته كان تعبيرًا عن رؤيتي الشخصية لما يجري في بلدنا، ودعوة لتحمل المسؤولية في مواجهة التجاوزات بمختلف درجاتها. إن الانتقاد البناء لا يهدف إلى تدمير الأشخاص، بل إلى تعزيز الأفق الفكري والثقافي، ويجب أن يُسحب من الدائرة الضيقة للصراعات الشخصية.
من المؤسف أن يتم اللجوء إلى الشتائم والتشويه، خصوصًا في هذه المرحلة التي يتطلب فيها الأمر الهدوء والحوار. نحن بحاجة إلى مناخ يتيح لنا التعبير عن آرائنا بحرية، لكن من دون اللجوء إلى الإساءة أو الطعن في كرامة الآخرين. إذ يتعين علينا أن نتذكر دائمًا أننا في مرحلة حساسة، وكل كلمة نكتبها أو نقولها يجب أن تكون مسؤولة. نحن نكتب وننقد من أجل بناء، لا من أجل الهدم، أو البهلنة أو الاستعراض الذين ليس مكانهما-هنا- ولم يقم بل ولن يقوم هؤلاء بممارستها خارج بلد القانون
على الرغم من هذه التحديات، هناك إشارات تبعث على الأمل. ففي الوقت الذي لا يتوقف فيه بعضهم عن مهاجمة كل صوت مختلف، فهناك العديد من الكتاب الذين يكتبون بشجاعة ويواجهون التحديات بوعي. ولا بد لنا من الاعتراف أن الاختلاف ليس عيبًا، بل هو سمة من سمات المجتمعات الحية. ويجب ألا نُخضع اختلافاتنا الفكرية لظروف الهجوم الشخصي أو التهديدات اللفظية. بل يجب أن ننطلق من هذه الاختلافات لبناء قاعدة من الحوار والنقد البنّاء.
والسؤال الذي يطرح ذاته بإلحاح: لماذا لا نتحاور بشكل نقدي حول ما يجمعنا بدلًا من التركيز على ما يفرقنا؟ لماذا لا نرفع لغة الحوار إلى مستوى يُخدم فيه قضيتنا الكبرى، قضية شعبنا الكردي؟ الفضاء الذي نعيش فيه اليوم يعج بالصراعات والآلام، ويجب أن نتذكر أن أولوياتنا يجب أن تكون واضحة: تحسين واقعنا ومواجهة التحديات المزدوجة التي تواجهنا، من القمع الداخلي إلى التدخلات الخارجية.
إنني أدعو إلى أن يكون الحوار بيننا أكثر وعيًا ونضجًا، فليس من بطل أسطوري بيننا يستطيع محو سواه، عبر ما كتبه، أو ما قدمه من نضال سابق، إذ إنني- مثلاً-  لا أشعر بأية عقدة تجاه أحد من هؤلاء.  ومن هنا، فإن علينا أن نركز على الأفكار لا الأشخاص، وعلى الحلول لا المشكلات. بدلاً من السعي إلى فرض رأي واحد،  فإنه يجب أن نتقبل تعدد الآراء وأن نعمل معًا على إيجاد الحلول التي تخدم شعبنا وقضيتنا. الشتائم المشينة التي هي ليست دليل عافية وثقافة وتربية أخلاقية لدى صانع الوعي- الكاتب- وحتى ابن الشارع، لا تبني مجتمعًا، بل تزيد من التوتر. أما الكتابة المسؤولة. الكلمة المسؤولة اللتين تتسمان بالاحترام المتبادل، فهما اللتان تقويان دعامات المجتمع وتقرب المسافات بين المختلفين.
دعوتي لكل الكتاب، بغض النظر عن توجهاتهم، أن يتحملوا مسؤولياتهم الأدبية والأخلاقية في الكتابة. نحن الكتاب لم نكن يومًا في ساحات مصارعة، بل نحن أصحاب رأي وصوت، نعبر عن آرائنا عبر مقالاتنا وأفكارنا. وعلينا أن نتجنب السقوط في فخ الشتائم البذيئة التي تليق بقطاع الطرق والبلطجية والجلادين، وأن نتذكر أن كرامة الإنسان هي أغلى ما يمكننا الحفاظ عليه.
أجل. إننا من خلال النقد المسؤول والكتابة المدروسة-فحسب- يمكننا أن نبني مساحة مشتركة تتيح لنا جميعًا التعبير عن آلامنا وآمالنا، والعمل معًا من أجل تحقيق غدٍ أفضل لشعبنا الكردي وسوريا التي نحلم بها.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

د. محمود عباس في لقائه الصحفي الأخير اليوم، وأثناء رده على سؤال أحد الصحفيين حول احتمالية سحب القوات الأمريكية من سوريا، كرر خطأ مشابهًا لأخطائه السابقة بشأن تاريخ الكورد والصراع الكوردي مع الأنظمة التركية. نأمل أن يقدّم له مستشاروه المعلومات الصحيحة عن تاريخ منطقة الشرق الأوسط، وخاصة تاريخ الأتراك والصراع بين الكورد والأنظمة التركية بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية. للأسف، لا…

إبراهيم اليوسف ليست القيادة مجرد امتياز يُمنح لشخص بعينه أو سلطة تُمارَس لفرض إرادة معينة، بل هي جوهر ديناميكي يتحرك في صميم التحولات الكبرى للمجتمعات. القائد الحقيقي لا ينتمي إلى ذاته بقدر ما ينتمي إلى قضيته، إذ يضع رؤيته فوق مصالحه، ويتجاوز قيود طبقته أو مركزه، ليصبح انعكاساً لتطلعات أوسع وشمولية تتخطى حدوده الفردية. لقد سطر…

نارين عمر تدّعي المعارضة السّورية أنّها تشكّلت ضدّ النّظام السّابق في سوريا لأنّه كان يمارس القمع والظّلم والاضطهاد ضدّ الشّعوب السّورية، كما كان يمارس سياسة إنكار الحقوق المشروعة والاستئثار بالسّلطة وعدم الاعتراف بالتّعدد الحزبي والاجتماعي والثّقافي في الوطن. إذا أسقطنا كلّ ذلك وغيرها على هذه المعارضة نفسها – وأقصد العرب منهم على وجه الخصوص- سنجدها تتبع هذه السّياسة بل…

فوزي شيخو في ظل الظلم والإقصاء الذي عاشه الكورد في سوريا لعقود طويلة، ظهر عام 1957 كفصل جديد في نضال الشعب الكوردي. اجتمع الأبطال في ذلك الزمن لتأسيس حزبٍ كان هدفه مواجهة القهر والعنصرية، وليقولوا بصوتٍ واحد: “كوردستان سوريا”. كان ذلك النداء بداية مرحلةٍ جديدة من الكفاح من أجل الحرية والحقوق. واليوم، في هذا العصر الذي يصفه البعض بـ”الذهبي”، نجد…