إبراهيم اليوسف
ما أن تسقط الأنظمة الدكتاتورية بعد عقود من القمع والدماء، حتى تبدأ الأسئلة الكبرى بالظهور حول مستقبل المجتمع وما خلفته تلك السنوات من أزمات نفسية، اجتماعية، وسياسية. إذ أنه وبعد أربع عشرة سنة من القتل والدمار، انهار النظام السوري، كما كان متوقعاً، تحت ثقل الجرائم التي ارتكبها، متوهماً أن وصفة القمع التي ورثها عن أبيه ستظل صالحة حتى في عصر الإعلام المفتوح. لكن الإعلام كان القوة التي قلبت المعادلة، وقلبت السحر على الساحر المخدوع، فكشف جرائمه أمام العالم، وحول رأس النظام إلى هارب مذعور.
منذ بداية الثورة السورية، ارتبط إعلام النظام بالكذب والتزييف. نشراته المسائية التي كانت تعرض كل يوم صوراً مفبركة عن “استقرار الدولة”، كانت تكشف تدريجياً أمام السوريين والعالم زيف ما تبثه. في صباح الثامن من ديسمبر، تحول التلفزيون الرسمي إلى منصة تفضح ذاتها، حيث تصدرت صور رأس النظام وهو يهرب عناوين الأخبار، بعد أن كانت تتصدره أول المساء!، في هالة الرئيس الأبدي. ابن الأبدي. المنقذ!
ومع ذلك، فإنه لم يكن الإعلام الرسمي وحده من انهار؛ بل انهارت معه منظومة كاملة من القيم الأخلاقية التي كان يزعم الدفاع عنها. النظام الذي ولد الإرهاب من مختبراته، بالتعاون مع روسيا وإيران وتركيا وحزب الله، حول سوريا إلى مرتع للجريمة المنظمة، خلال عقد ونيف من زمن الحرب، كامتداد لعقود من الاستبداد والتخريب والفساد والدمار والظلم.
لقد ظهر في السنوات الأولى من حرب النظام على السوريين، من دافع عن أهله بصدق وكانوا أوائل الأبطال الحقيقيين، لكن سرعان ما اختلطت الصفوف، بعد أن ظهر المرتزقة وقطاع الطرق نتيجة إطالة أمد قتل النظام للأبرياء، فتحولت الثورة إلى ساحة للدماء والفوضى. أولئك الذين بدأوا بقتل المدنيين كانوا البذرة الأولى للإرهاب الذي نما في ظل الفوضى.
اليوم، بعد سنوات من الخراب، نجد أنفسنا أمام مئات الآلاف من حملة السلاح. بعضهم عاد إلى الحياة المدنية، تسللاً، أو علناً، لكن إرث العنف لا يزول بسهولة. من هؤلاء من يعيش الآن في أوروبا، كما يقال، ومنهم من بقي في الوطن يحمل في داخله آثار القتل والدمار. آخرون استبدلوا بزاتهم العسكرية بملابس مدنية، لكن عقولهم ما زالت أسيرة العنف.
هل يمكن- إزاء كل هذا- إعادة دمج هؤلاء الذين أرغموا أو تطوعوا أو انخرطوا أو اضطروا لظروفهم لخوض الحرب في الطرفين، في مجتمع جديد، بعد مرورهم في مستوجبات العدالة الانتقالية ومفرداتها القانونية؟ الإجابة ليست بسيطة. سوريا الديمقراطية التي نحلم بها لن تكون قابلة للحياة إذا لم نواجه هذا التحدي بجدية، إذ أنه لابد من إيجاد فرز حقيقي بين هذه الفئات، وتقديم من قتل الأبرياء تحت أية ذريعة كانت، وهذا ما يتطلب الحكمة، لا ثقافة الثأر. إلا أن المكرهين على الحرب دفاعاً عن ذويهم فحسب من دون إيذاء الأبرياء ومن دون العمل كمرتزقة- لمجرد الارتزاق، ولعلنا ندرك الحاجة بعد تجويع الآلاف منهم في تركيا، فإن لهؤلاء شأناً آخر، لابد من قراءته وفق القوانين اللازمة. لكن جميع هؤلاء يشكلون حالة لابد من إدراكها، وتقويمها، لئلا تتكرر تجربة العراق في سوريا.
وإذا كنا قد تحدثنا عن مصير أدوات العنف، كل بحسب انخراطه في اللجة، فإن ضحايا هذه الأدوات، بدورهم، بحاجة إلى قراءة أحوالهم. هؤلاء الذين تحت الخيام خارج الوطن وداخله، أو هؤلاء المشردين الذين طردوا من بيوتهم أو غادروها مكرهين وهم يحملون جراحات الحرب: مجوعين مشردين من دون مآو، والأكثر إيلاماً هؤلاء الذين فقدوا ذويهم في الحرب، سواء نتيجة براميل ورصاص النظام عبر مجازره المفتوحة، أو من خلال الأسر، وأكثر هؤلاء لما يزل مجهول المصير. يزداد عمق الجرح ونحن نتابع واقع سجون النظام الذي اعتمد المكابس، المقاشر، المسالخ، التذويب، المقابر الجماعية، وعدم معرفة مصير أي أسير، وهذا ما لا يحدث إلا من قبل المافيات أو العصابات.
من هنا، فإن سوريا الجديدة. سوريا البلد الديمقراطي، شفاف الإعلام غيرالمؤدلج وغيرالمزيف، يجب أن ينبذ فيها العنف، بل أن يعدم نهائياً. وإن كنا نشهد العديد من مؤشراته، في إطار الثأر والانتقام، ولابد من رصدها طالما هي خارج قوس العدالة والمحاكم، كما أن إعادة الإعمار النفسي يجب أن تكون من أول الأولويات بالتزامن مع إعادة إعمار ما تعرض للدمار. إذ أن هناك دمارين: نفسي وعمراني. في إطار ترميم أو توفير البنية التحتية المدمرة من قبل جهات عدة، يجب أن تدفع أكلاف ذلك، مع التعويض لأسر الضحايا. وإن كانت كل أموال الدنيا لا تعوض عن نقطة دم ضحية بريء، أو دمعة طفل، أو عويل أم مظلومة ثكلى، أو آهة معذب بريء.
إن معالجة الجراح النفسية ضمن الضرورات الأولى في هذه المرحلة الصعبة. مرحلة إسقاط نظام عات دكتاتوري، على أمل ألا يخلفه أي نظام غير ما حلم به السوريون، بعيداً عن عسكرة سوريا أو هيمنة العسكر، أياً كانت رؤاهم، وتصنيفاتهم.
كل هذه الأمور يجب أن تترافق، في ظل العدالة الانتقالية، ومحاسبة كل من تورط في الجرائم، مع منح الفرص لإعادة التأهيل لمن يمكن إصلاحه، كل بحسب درجة تورطه، مع ثورة في عالم التربية والتعليم، بعيداً عن أية أدلجة مسبقة، ولا قائد رمز. إن سوريا الديمقراطية التي نحلم بها ليست مجرد نظام سياسي جديد، بل هي مجتمع يعيش بسلام بعيداً عن السجون والقتل والتهجير. هذا الحلم لن يتحقق إلا إذا تمكنا من مواجهة الإرث الدموي بصدق وشجاعة.
يتبع2/2