“إنجيل الناجين”

خالد ابراهيم
 نحن من لا أسماءَ لهم، من وُلدوا على الهامشِ وماتوا في الفراغ. نحن الذين خسروا المعركةَ قبل أن تبدأ، الذين لم يرفعوا السلاح لكنهم سقطوا أولًا، الذين لم يصرخوا لأنهم خرجوا إلى الدنيا بحناجرَ مذبوحة. وُلِدنا في الأزقةِ المعتمة، بين الجدرانِ التي حفرتها الرصاصات، تحت سماءٍ لم تُمطر إلا نارًا. لم يكن لنا وطنٌ لنموتَ دفاعًا عنه، لم يكن لنا علمٌ ليلفّ جثثنا، ولم يكن لنا بيتٌ لتبكي فيه أمهاتُنا دون أن يداهمهنَّ الليلُ بعصاه. كبرنا بين الخطبِ التي تُبشّرُ بالجنة، والمشانقِ التي تُعلن أسماء الداخلين إليها. شربنا الخوفَ مع حليبِ أمهاتنا، ورأينا أعيادَنا تأتي على هيئةِ قوائمَ جديدةٍ للمفقودين. لم نتعلّم أسماءنا، بل تعلمنا أسماءَ الطغاة، حفظناها قبل أن نحفظَ الحروف، ورددناها قبل أن نعرفَ معنى الحياة. كنا وقودَ حروبٍ لا نعرف أسبابها، ضحايا جرائمَ لا قَتَلةَ لها، أشباحَ مدنٍ احترقت قبل أن تُبنى، خطوطًا منسيةً في كتابٍ لم يقرأه أحد. قتلونا خوفًا، قتلونا جوعًا، قتلونا وهم يضحكون، قتلونا وهم يُلقون علينا خطبًا عن الشرفِ والمجدِ والمقاومة. هذا عصرُ الوحوشِ التي تتنكرُ في هيئةِ قادة، هذا عصرُ الكلماتِ التي تقتل، والكتبِ التي تذبح، والصلواتِ التي تُشنقُ على أبوابِ المعابد. هذا عصرُ المدنِ التي يُطردُ منها أهلُها، والأطفالِ الذين يكبرون في المقابر، والنساءِ اللواتي يلدنَ أبناءهنَّ ليُسلّموهم إلى الجلاد. يا أيها العالمُ الغارقُ في الوحل، يا أيها التاريخُ المثقوبُ بالكذب، يا أيها الربُّ الذي لم يلتفت إلينا يومًا… لا حاجةَ لنا بعطفِك، لا حاجةَ لنا بعدلكَ المتأخر، لا حاجةَ لنا بموعظةٍ أخرى عن الصبرِ والفرج. لقد اعتدنا أن نموتَ بلا عزاء، بلا قبورٍ تُزار، بلا دموعٍ تُسكبُ على نعوشنا. اعتدنا أن نمضي كأننا لم نكن، أن نتحللَ في الترابِ دون أن يلحظنا أحد، أن نُمحى من الذاكرةِ كما تُمحى آثارُ الأقدامِ على الرمل. لكن إن سألتم عنّا يومًا، فلن تجدونا في دفاترِ المؤرخين، لن تجدونا في خطبِ الفاتحين، لن تجدونا في أسماءِ الشوارعِ أو على جدرانِ المتاحف. ستجدوننا في الصمتِ بين السطور، في الفراغِ بين الأزمنة، في الريحِ التي تهبُّ ولا تُخلّفُ أثرًا. فنحن الذين مشينا على الأرضِ ولم تذكرنا، نحن الذين مَررنا من هنا، ثم تلاشى كلُّ شيءٍ من بعدنا.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…