إشكالية السياسي والثقافي في حالتنا الكردية السورية

صلاح بدرالدين

خلال الانتخابات البرلمانية في ١ كانون الأول عام ١٩٦١ ، وكانت اخر انتخابات حرة في تاريخ سوريا ، وعندما ترشح الراحل الدكتور نورالدين ظاظا عن حزبنا (الحزب الديموقراطي الكردي في سوريا) أتذكر انني كنت في عداد – وكيل متنقل – لحملته وليس وكيلا رسميا ثابتنا بسبب مانع قانوني وهو صغر سني ، وكنت اتنقل بين مراكز الاقتراع ، ولما وصلت الى مركز (دكشوري) – منطقة القامشلي تفاجات بوجود مراقب مدرستنا البعثي  ( حسين حاج حسين ) ” الذي اساء الي بعد ذلك كثيرا وعاقبني دون مبرر بمدرسة العروبة ثم اصبح فيما بعد محافظا للجزيرة ثم وزيرا ” كمسؤول عن المركز من قبل السلطات ، وكانت مفاجاتي اكبر عندما ادلى بصوته متمتما بصوت عال : ساصوت للدكتور ظاظا لانه المثقف الوحيد في قائمة المرشحين المليئة بأسماء وجهاء العشائر ، وحتى مرشحوا الحزب الشيوعي كان بينهم –اشباه اميين – ، وأريد القول بهذا المجال ان عددا من المتنورين ساهموا في بناء الحركة القومية – الوطنية الكردية السورية من أمثال – آل بدرخان ، وعثمان صبري، وجكرخوين، ورشيد حمو ، وشوكت حنان وغيرهم كثيرون.

تأثير تجربة كفاح البدرخانيين على الحركة الكردية السورية

تميز النهج القومي لنضال آل بدرخان بالجمع بين الكفاح المسلح ، والانتفاضات الثورية ، وبين العمل الثقافي ، والنضال السياسي ، فالى جانب الثورات التي اشعلوها في مناطقهم ضد السلطنة العثمانية ، قاموا  في الوقت ذاته بتاسيس الجمعيات الثقافية ، وبناء مدارس وكتاتيب  لتعليم اللغة الكردية ، وإصدار مجلات ، وطبع كتب تتعلق بالتاريخ الكردي وآدابه ، فهم اول من اصدر صحيفة كردية باسم – كردستان – الى جانب المجلة الشهيرة – هاوار – وغيرها من الدوريات التي كانت تصدر في استانبول ، وبيروت ، ودمشق ، ثم في مصر ، وقبل ذلك في أوروبا ، هذا مع الإشارة الى دورهم في تأسيس حركة – خويبون – التي انطلقت من القامشلي بداية ثم أعلنت في لبنان لاسباب سياسية امنية تتعلق بعلاقات فرنسا مع تركيا ، وقد شكلت هذه الحركة مقدمة لانبثاق الحركة السياسية الكردية السورية المعاصرة ، التي تاثرت بكامل التراث البدرخاني ، والنهج الذي اتبعوه.

لقد انعكست تلك التجربة بشكل اكثر وضوحا في مسار اليسار القومي الديموقراطي منذ كونفرانس الخامس من آب لعام ١٩٦٥ ، وذلك على شكل مواصلة النضال السياسي ضد الاستبداد ، ومن اجل الحقوق القومية والديموقراطية الى جانب بلورة الفكر السياسي للحركة ، وإعادة تعريف الشعب ، والقضية ، والحقوق ، والوسائل النضالية ، وتشخيص الأصدقاء ، والاعداء ، والخصوم ، وإصدار المزيد من الكراريس التثقيفية ، والمجلات ، والصحف ذات الطابع الفكري والثقافي ، وتاسيس الفرق الفولكلورية والغنائية لمواجهة سياسة التعريب وتغيير التركيب الديموغرافي ، ثم ايفاد الطلبة الكرد الى الخارج عبر المنح الدراسية من جانب الدول الاشتراكية – سابقا – ، وتم تتويج الجانب الثقافي بتاسيس الصرح الثقافي المرموق – رابطة كاوا للثقافة الكردية – وإصدار العشرات من الكتب ، والاعمال التاريخية ، والسياسية ، والثقافية ، وتنظيم مئات الندوات الثقافية في مركزها الرئيسي باربيل ، خلاصة القول نجحنا في عملية شرعنة التوأمة بين السياسي والثقافي والتصالح بينهما ، بل ان تجربتنا لاكثر من نصف قرن اثبتت اننا انطلقنا الى السياسي من خلفية الثقافي ، وثبتنا مبدأ عدم إمكانية الفصل بين النضالين السياسي والثقافي في الحالة الكردية السورية المشخصة.

المسار الذي سلكناه لم يكن سهلا بل كان محفوفا بالمخاطر ، خصوصا من جانب نظام الاستبداد الذي شعر بانه امام خصم عنيد مسلح بالفكر ، والثقافة يعرف مايريد ، لذلك اتخذ إجراءات غير عادية امنية بشكل خاص لمواجهة هذا الخصم ، واختراق صفوفه ، لشل حركته ونجح جزئيا في مخططه بد اية التسعينات ، الى جانب محاربتنا سياسيا ، ودعائيا من جانب نفر من الكرد المنتمين الى الحزب الشيوعي السوري الرسمي وجلهم من اشباه الاميين الذين ( ماعدا قلة قليلة ) لم يفهموا الماركسية اللينينية حول القضية القومية ، وانحرفوا عنها ، ومن المفارقات وخلال سعينا لتعليم وتثقيف فقراء شعبنا بالدول الاشتراكية كان احد الكرد المسؤولين في هذا الحزب ( مسؤول العلاقات الخارجية ) يرفع تقريرا للمكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفييتي يطالب فيه بوقف المنح الدراسية لحزب الاتحاد الشعبي لانه حزب قومي بورجوازي ؟! . ( الرسالة والجواب الصادم عليها من المسؤولين السوفييت منشورة في مذكراتي ) .

عودة الى تعريف السياسي والمثقف في ساحتنا الكردية السورية راهنا

من الواضح ان الكردي السوري بشكل عام أينما كان وحيث ماحل وبغض النظر عن طبقته ، وبيئته الاجتماعية ، ومفاهيمه ، مسيس بالفطرة بسبب المعاناة أولا وتوفر وسائل التواصل المسموعة والمقروءة ، يمكنه التعبير عن آلامه ، وطموحاته ، ويطيب له التعاطي في أحوال العالم كما يشاء ، اما السياسي المحترف فاما ان يكون منتميا الى حزب من عشرات الأحزاب الموزعة بين طرفي الاستقطاب ( ب ي د و ب د ك س ) ، او ان يكون مستقلا حرا ، القسم الأول وكما هو معلوم فقد تورط المتنفذون فيه باالفساد على الأقل منذ نحو عقد من السنين ، وانحرفوا عن خط – الكوردايتي – وفقدوا الاستقلالية ، وفشلوا في انجاز اية مهمة من المهام القومية والوطنية ، واصبحوا جزء من المشكلة والازمة وهنا تتفاوت المسؤوليات بين من يقود سلطة الامر الواقع فهو الأكثر سوء وبين الطرف الاخر الذي يسعى الى المحاصصة مع الأول ( ودائما هناك استثناءات ) ، اما السياسي الوطني المستقل الذي يسعى الى تصحيح المسار ، وإعادة البناء ، وإنقاذ الحركة الكردية من حالة التفكك والانقسام فيختلف كليا عن السياسي الحزبي من حيث الفكر ، والمفاهيم ، والأخلاق السياسية ، وهو ليس في مواقع سلطة الامر الواقع ، ولا في موقع المستفيد من المال السياسي وبالتالي ليس في وارد استغلال الاخرين كما يفعله السياسي الحزبي المتنفذ  في التسلط ، وزرع الاتباع ، ودفع الرشاوى ، وتجيير جماعات وتنظيمات من المجتمع المدني بمافيها المسمية بالثقافية لصالح حزبه.

المثقف الحقيقي الذي يستحق التسمية هو من يلتزم بقضايا شعبه ووطنه، ويترفع عن ممالأة الاخرين لمصالح مادية او يمارس الازدواجية ، ويقدم مالديه من معرفة من اجل اسعاد شعبه ، وترسيخ حركته السياسية الوطنية الديموقراطية، ومن صفات   المثقف الحقيقي المبدع في حالتنا الكردية السورية الوقوف الى جانب مساعي إعادة البناء ، والتصالح بين الثقافة والعمل القومي الوطني ، ومواجهة الفساد الحزبي ، وتصحيح الانحراف الفكري الحزبي حول الشأن القومي ، والعمل على بلورة المشروع القومي الوطني الكردي من اجل السلام ، والبحث عن سبل انقاذ الفكر القومي الديموقراطي ، والتمسك بالاستقلالية ، واغناء الشخصية الكردية السورية  ، والخروج من اطر الجمود اوالانشغال بالتفسير الشخصاني للصراع ، دور المثقف الحقيقي الملتزم هو الابداع الفكري في خدمة الحركة بعيدا عن المصالح والمغانم ، والمجاملات المملة الفارغة.

هذا النوع متوفر بشكل وآخر بين صفوف شعبنا من النساء والرجال ، ولدينا نخبة مثقفة واعدة من الكتاب ، والإعلاميين ، والصحافيين ، والشعراء وهم موضع الاعتزاز ، وقد يبنى عليهم بالمستقبل ، ولكن الخشية كل الخشية من من يتقمصون دور المثقف ويتبعون السياسي الحزبي سرا او علانية ، ومن يحشرون انوفهم في صراعات الأحزاب والحزبيين عبر الاستزلام او اثارة الفتنة ، ومن يهرعون للقاء السياسي الحزبي الفاسد في مكتبه او مكان اقامته في حين يجب ان يحدث العكس ، ومن يمارس نفس سلوك السياسي الحزبي بمؤسسات ثقافية في ضرب الديموقراطية ، وانتقال المسؤوليات ، والبقاء في سدة المسؤولية الى الابد، ومن يتربص بالاخر من اجل مصلحة شخصية الى درجة شق العمل الثقافي تماما مثل السياسي الحزبي ، واذا كان هناك مبرر للتعددية السياسية فهل يجوز ذلك في الثقافة القومية الواحدة ؟.

السياسي الحزبي الفاسد يقسم المجتمع الكردي على أساس مناطقي ويحصر مسؤولية الأحزاب في لون مناطقي واحد ، ويتكامل معه متقمص الثقافة على نفس المنوال ، السياسي الحزبي الفاسد يشجع العشائرية على حساب القومي ، ويتكامل معه متقمص الثقافة بالترويج للزعامات والكتابة عنها وكان التاريخ الكردي سطره الافراد وليس الشعب ، السياسي الحزبي الفاسد معروف بالضحالة الفكرية والفقر المعرفي ، فهل سمعتم ان أحدا من متقمصي الثقافة اصدر مشروعا ، او برنامجا فكريا نافعا من اجل توحيد الحركة الكردية السورية المنقسمة على نفسها ؟ ومن الطبيعي في الحالة هذه ان يكون متقمص الثقافة طريدة سهلة المنال ،ويسترخصه السياسي الحزبي الفاسد ، ويولي وصيا عليه وآمرا.

المثقف الحقيقي  الملتزم واثق من نفسه ، ويفرض احترامه على الجميع من دون عناء ، ويهابه الجميع بمن فيهم أصحاب السلطة والقرار ، وكمثال معروف ومتداول : اخبر قائد شرطة باريس الرئيس شارل ديغول ان هناك امر بالقاء القبض على – سارتر – لمخالفته القانون ، فاجابه ديغول : سارتر هو فرنسا فهل تلقي القبض على فرنسا ؟ .

أخيرا لابد من التأكيد انني لم اقصد طرفا او حزبا او شخصا معينا بل حاولت تشخيص الازمة العامة السياسية والثقافية ، وكلنا مسؤولون عن تفاقمها ، وواجب معالجتها بأسرع وقت .

وللبحث صلة ………

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

نارين عمر تعتبر المعارضة في أية دولة ولدى الشّعوب الطريق المستقيم الذي يهديهم إلى الإصلاح أو السّلام والطّمأنينة، لذلك يتماشى هذا الطّريق مع الطّريق الآخر المعاكس له وهو الموالاة. في فترات الحروب والأزمات تكون المعارضة لسان حال المستضعفين والمغلوبين على أمرهم والمظلومين، لذلك نجدها وفي معظم الأحيان تحقق الأهداف المرجوة، وتكون طرفاً لا يستهان به في إنهاء الحروب…

محمد زيتو مدينة كوباني، أو عين العرب، لم تعد مجرد نقطة على الخريطة السورية، بل تحولت إلى رمز عالمي للصمود والنضال. المدينة التي صمدت في وجه تنظيم داعش ودفعت ثمنًا غاليًا لاستعادة أمنها، تجد نفسها اليوم أمام تحدٍ جديد وأكثر تعقيدًا. فالتهديدات التركية المتزايدة بشن عملية عسكرية جديدة تهدد بإعادة إشعال الحرب في منطقة بالكاد تعافت من آثار النزاع، ما…

بوتان زيباري كوباني، تلك البقعة الصغيرة التي تحوّلت إلى أسطورة محفورة في الذاكرة الكردية والسورية على حد سواء، ليست مجرد مدينة عابرة في صفحات التاريخ، بل هي مرآة تعكس صمود الإنسان حين يشتد الظلام، وتجسيد حي لإرادة شعب اختار المواجهة بدلًا من الاستسلام. لم تكن معركة كوباني مجرد مواجهة عسكرية مع تنظيم إرهابي عابر، بل كانت ملحمة كونية أعادت…

إبراهيم اليوسف لقد شهدت البشرية تحوُّلاً جذرياً في طرق توثيقها للحياة والأحداث، حيث أصبحت الصورة والفيديو- ولأول وهلة- الوسيلتين الرئيسيتين لنقل الواقع وتخليده، على حساب الكلمة المكتوبة. يبدو أن هذا التحول يحمل في طياته نذر موت تدريجي للتوثيق الكتابي، الذي ظل لقرون طويلة الحاضن الأمين للمعرفة والأحداث والوجدان الإنساني. لكن، هل يمكننا التخلي عن الكتابة تماماً؟ هل يمكننا أن ننعيها،…