إبراهيم اليوسف
أرقام مأساوية وأفق مفقود؟!
شهدت سوريا تحت ظل حكم نظام الأسدين: الأب والابن عقودًا من الاستبداد، حيث تحولت البلاد إلى سجن مفتوح لشعبها. بمرور السنوات، تراكمت المآسي، وتزايدت الأرقام الكارثية التي تعكس عمق الجرح السوري، حتى باتت البلاد نموذجًا للمآسي الإنسانية المعاصرة. ورغم مرور أكثر من عقد على الثورة السورية، لا يزال الأفق ملبّدًا بالضباب، وسط انقسام المعارضة، واستمرار القبضة الحديدية للنظام. أرقام وإحصاءات زمن الحرب في سوريا ليست مجرد حسابات عابرة، بل شواهد على حجم الكارثة. فقد تجاوز عدد القتلى مئات الآلاف، فيما شُرّد الملايين داخل البلاد وخارجها، لتصبح سوريا أكبر أزمة لجوء عالمي في العصر الحديث. تُقدّر الأمم المتحدة أن أكثر من نصف الشعب السوري قد نزح عن دياره، في حين يعيش حوالي 90% من السكان تحت خط الفقر. بل إن الدمار لم يقتصر على الأرواح؛ فقد تمزّقت البنية التحتية تمامًا، ودُمرت المدن التاريخية التي كانت شاهدة على الحضارات القديمة. المشافي، المدارس، والمساجد لم تسلم من القصف، ما جعل الحياة اليومية شبه مستحيلة، بينما يقف النظام وراء أكثر من 80% من الجرائم الموثقة بحق المدنيين، من استخدام الأسلحة الكيميائية إلى التعذيب الممنهج في السجون.
أجل. إنه بعد مرور أربع عشرة سنة على اندلاع الثورة السورية، يستمر النظام في البقاء رغم الكوارث التي ألحقها بسوريا وشعبها. بلدٌ كان يُنظر إليه كمركز للتاريخ والثقافة أصبح اليوم رمزًا للمأساة الإنسانية. أكثر من 600,000 شخص قتلوا منذ عام 2011 وفقًا لتقديرات منظمات حقوق الإنسان. يُقدر عدد المفقودين والمغيبين قسريًا بما يزيد عن 100,000 شخص، مصيرهم لا يزال مجهولًا، سواء في سجون النظام أو تحت الأنقاض. بالإضافة إلى ذلك، أصيب أكثر من 1.5 مليون شخص بجروح وتشوهات دائمة نتيجة القصف، التعذيب، والانفجارات. أما اللاجئون، فقد بلغ عددهم بلغة الأرقام الدقيقة حوالي 6.8 مليون لاجئ هربوا من سوريا، بينما نزح حوالي 7 ملايين آخرين داخليًا بسبب القتال والدمار.
هذه الأرقام ليست مجرد” إحصائيات”؛ إنها أرواح عانت وما زالت تعاني بسبب نظام وحشي اختار القوة والبطش على حساب كرامة شعبه. “تشويه الأرواح” هو المصطلح الأدق لوصف ما خلفته الحرب في النفوس والأجساد. الحرب لم تترك السوريين فقط ضحايا، بل زُرعت ثقافة الثأر وقُذف بكثيرين إلى حافة الانتقام تحت وطأة الجوع واليأس، مما عكس عمق الدمار النفسي الذي أصاب المجتمع.
لقد غدت سوريا ساحة لصراع القوى الإقليمية والدولية. فقد تدخلت روسيا عسكريًا عام 2015 لإنقاذ النظام، ما قلب موازين الحرب لصالحه. كما إن إيران دفعت بميليشياتها وأموالها لدعم نظام الأسد، ما ساعد في إبقاء النظام على قيد الحياة. في الوقت الذي راحت تدير فيه الولايات المتحدة المشهد من بعيد، متدخلة حينًا ومتراجعة أحيانًا. لتواتى الأجواء والظروف لتركيا كي تحتل بدورها مناطق في الشمال السوري وتفرض تغييرات ديمغرافية في مدن مثل” عفرين” و”رأس العين- سري كانيي” و” تل أبيض”، تحت ذريعة الخوف من الكرد، ليكون هذا الاحتلال عملية جينوسايد حقيقي، ما أضاف طبقة جديدة من المأساة للسوريين.
فمنذ بداية” الثورة” التي أجهضت في مهدها، كان بإمكان المجتمع الدولي التدخل لإسقاط النظام بطرق سلمية دون الحاجة إلى حرب شاملة، لكن المصالح المتضاربة بين القوى الكبرى حالت دون ذلك. واليوم، نرى مؤامرات و مؤتمرات تُعقد بهدف إدارة الصراع بدلاً من حله، دون أي اعتبار لحقوق الشعب السوري أو تطلعاته، وأبرز القضايا غير ممكنة التجاوز كقضية الشعب الكردي الذي يعمل عليها، في ضوء المعلن لترجل إلى مئة سنة قادمة، في أجزاء كردستان عموماً!
قمع المعارضة وتجفيف المنابع
النظام لم يكتفِ بتدمير الحياة المادية للشعب، بل استهدف أيضًا القضاء على كل ما يمثل أملًا في التغيير. واجهت الانتفاضة الشعبية في بداياتها سلمية المتظاهرين بالرصاص، لتتحول البلاد تدريجيًا إلى ساحة حرب دامية. إذ قُمع المعارضون بلا هوادة، وسُجنت أصوات الإصلاح، حتى باتت المعتقلات السورية رمزًا للوحشية. فقد لعبت الأجهزة الأمنية دورًا محوريًا في إبقاء النظام على قيد الحياة. أُغرقت البلاد في شبكة من الجواسيس والمخبرين، بينما حوّلت الممارسات القمعية كل محاولة للتحرر إلى كابوس من العنف.
التدخلات الدولية وأفق الاستقلال
لقد أصبح الصراع في سوريا ملعبًا لتصفية الحسابات بين القوى الإقليمية والدولية، ما أدى إلى تعقيد الوضع وزيادة معاناة الشعب. إذ إن روسيا وإيران دعمتا النظام بلا هوادة، ما مكّنه من استعادة السيطرة على مساحات واسعة من البلاد. في المقابل، جاءت مواقف المجتمع الدولي مترددة وغير حاسمة، حيث اكتفت الدول الكبرى بتقديم بيانات الإدانة دون اتخاذ خطوات عملية لإنهاء الأزمة. بينما رأينا المعارضة المسلحة والسياسية، التي كان يُفترض أن تكون البديل، قد أخفقت في تقديم مشروع وطني موحد. إذ إن تشتت الفصائل وتنافسها أتاح للنظام استغلال الانقسامات لصالحه، بل اختراق المعارضة، ودفع أزلامه ومن يواصلون خطابه وسياسته إلى جسمه، ما أدى إلى إضعاف الحراك الثوري وتشويه صورته أمام العالم، بعد أن كثر الفاسدون واللصوص وناهبو أموال الثورة المجهضة وسارقو الآثار، ومن ثم القتلة الذين هيمنوا على الساحة، مسيطرين عليها، بعد أن شرع النظام المجرم أبواب القتل فغدونا أمام القتل والقتل المعاكس بين” الشبيحة” ومن يتم شراء ذممهم من تركيا وقطر وغيرهما من الدول الممولة ذات الأجندات التي سعت إلى إيصال سوريا إلى هذا المصير المأساوي.
الأفق المفقود
بعد كل هذه السنوات، تبدو سوريا اليوم معلقة بين الماضي والمستقبل. النظام، رغم ضعفه الاقتصادي والسياسي، يواصل إحكام قبضته بدعم خارجي. المعارضة، رغم استمرارها، لم تتمكن من تجاوز خلافاتها لتقديم رؤية وطنية جامعة. كما إن
الشعب السوري، الذي دفع الثمن الأغلى، يبقى الحلقة” الأضعف” في هذه المعادلة. حيث ملايين اللاجئين ينتظرون يومًا يستطيعون فيه العودة إلى ديارهم، بينما تُركت البلاد بين مطرقة الاستبداد وسندان المصالح الدولية.
مسؤولية النظام الدولي
النظام الدولي الذي تعزى إليه- اليوم- وبعد أربع عشرة سنة من الدمار والقتل ما يقال: إنه مخطط للتخلص من رأس النظام، في محاولة للعودة إلى نقطة الصفر بعد كل ما تكبدته سوريا والسوريون، يتحمل مسؤولية مباشرة عن استمرار مأساة سوريا. فالقوى الكبرى التي تدير الصراع من خلف الستار لم تتخذ قرارات حاسمة لإنهاء معاناة السوريين. بدلاً من العمل على إسقاط نظام متجبر بالوسائل السياسية والدبلوماسية منذ عام 2011، فقد فضلت هذه القوى استثمار المأساة لتحقيق مصالحها الجيوسياسية. هذا التواطؤ أو العجز سمح باستمرار القتل والدمار، وزاد من تعقيد الأزمة السورية.
في ظل هذا الخراب، تبقى القضية الكردية محورًا مُغيبًا عن النقاش الدولي. المناطق الكردية مثل: عفرين ورأس العين/ سري كانيي وتل أبيض لا تزال تحت الاحتلال التركي، حيث يمارس المرتزقة الذين تربوا في أحضان أجهزة أمن النظام التركي أبشع أنواع القمع والتهجيربحق الكرد أهل المكان منفدين سياسة الجينوسايد بتخطيط تركي وتواطؤ دولي، بعد أن مارس النظام التركي سياستين متضادتين مع الضباط المنشقين:
أولاهما الانفتاح عليهم وفق” بروباغندا” الخط الأحمر الوهمي الذي أعلن عنه الرئيس التركي أردوغان!
وثانيهما تجويعهم المنظم وحصارهم والضغط عليهم ليكونوا أمام أحد خيارين: إما مصير الضابط حسين هورموش أو الإذعان وتنفيذ مخطط تركيا في التحول كاستطلاع للجيش التركي لاحتلال أجزاء من سوريا بدعوى محاربة حزب العمال الكردستاني الذي يشترك معه نوابه تحت سقف البرلمان التركي وقيادة البلاد.هذا الاحتلال هو نتيجة مباشرة لتواطؤ دولي، حيث تتجاهل القوى الكبرى حقوق الكرد كجزء لا يتجزأ من حل ما تسمى ب “الأزمة” السورية، وما زلت أبحث عن مصطلح أدق لأن كلمة أزمة جد قزمة أمام واقع سوريا، وقد تذكر لأول وهلة: بأزمة مرور لعدد من الحافلات على أحد الأوتوسترادات!
لكنه رغم كل الدمار، يبقى السؤال مطروحًا: لماذا تأخر إسقاط النظام حتى الآن؟ الإجابة تكمن في المصالح الدولية والإقليمية التي وجدت في بقاء الأسد أو تأخير رحيله وسيلة لتحقيق أهدافها.
سوريا: مصير غامض للسوريين
سوريا اليوم تقف أمام مصير غامض. فكم سنة أخرى- ترى- سيرزح السوريون خلالها تحت ظل هذا النظام القمعي، أو قوى الاحتلال الأجنبية، أو تحت وطأة التجويع والقمع المستمر؟ بل متى تعود سوريا إلى سكتها الطبيعية لتكون وطنًا لكل السوريين، بعيدًا عن ثقافة الثأر والانتقام، وعن سلطة أدوات القتل والتشريد لاسيما بعد تشظيها في مختبرات محلية- أي في أروقة أجهزة النظام- أوفي مختبرات إقليمية أو دولية؟ الإجابة تكمن في الإرادة الجماعية للسوريين بمختلف أطيافهم، والإرادة الدولية التي ما زالت غائبة، أو ربما متواطئة.
ما زلت أؤمن بأن إسقاط النظام ممكن، دون الحاجة إلى الاعتماد على قوى متطرفة أو تدخلات إقليمية، شريطة وجود إرادة دولية حقيقية وقيادة سورية موحدة تمثل مصالح الشعب بكل أطيافه.
عود على بدء:
إن” العقل” /”المزاج”الدولي الذي يزعم أنه يسعى لإسقاط الأسد، وهو” العقل”/ “المزاج” الذي طالما تغاضى عن فظائع النظام واحتفظ به لسنوات طويلة كحليف استراتيجي في المنطقة، يبدو أشبه بعقلية السلطة التي كانت تعتمد على بعض الزعران في شوارع المدن للتخلص من شخص غير مرغوب فيه، حتى عبر تصفيته. فبعد أن طالت فترة حمايته، أصبح التخلص منه ليس عملية تغيير حقيقية بقدر ما هي مجرد مسرحية تعبيرية. في هذا السياق، يمكن تشبيه الوضع بالزعماء الذين يستخدمون بلطجية المدينة لضرب بعضهم بعضًا، وفي النهاية، يصبح المأزق هو أن هؤلاء الزعران هم من كانوا في البداية الأداة التي حافظت على السلطة، في انتظار زعران آخر. أداة أخرى، للتخلص من الزعران القاتل، في دورة لاتنتهي. والمفارقة هنا تكمن في أن العملية بأكملها، والتي يفترض أن تكون ضد الطغيان، تتحول إلى عملية صراع داخلي بين أدوات النظام نفسه، مع كل العنف والانقسامات التي تخلّفها، دون أن تتحقق النتيجة المرجوة.
ملاحظة-1
صديق معارض عتيق ذو موقف مبدئي طلب مني أمس الانتباه إلى أن ما يتم ليس كما يبدو على السطح. دعاني إلى التريث في إطلاق الأحكام وذلك نتيجة حالة القهر والضياع وفقدان الأمل من موقف مبدئي حول ما يجري، مع التأكيد على أن دور الهيئة هو إسقاط النظام. سألته: لم الاعتماد على هذه الأداة أصلاً؟ ومن يضمن إيقافها عند حدها وإبعادها بعد السقوط؟ لا سيما أن من يخطط لهكذا مشروع قادر على التغيير دون إراقة نقطة دم، وليس على أيدي ربيب قاعدي. للتوضيح، صديقي الذي ناقشني مناضل حقيقي، وهو غير مسلم وشيوعي معارض عريق ذو باع طويل في نطاق عمله.
ملاحظة-2
ما أكتبه من مقالات سياسية تعد من خلال تقويمي لها أقرب إلى الإعداد باعتبارها تخلو من الإبداع وهي نتاج: متابعات وقراءات وتراكمات أخبار مؤرقة من الإعلام المقروء والمسموع والمرئي، لذلك فإنني أكتبها كجزء من واجبي تجاه شعبي ووطني وبلدي وجيراني وشركائي الذين سأظل أراهم أفراد أسرتي ضمن شرط عدم عدوانيتهم لأي طرف أو شريك لأي داع:قومي أو ديني أو طائفي