عبدالرحمن كلو
المشروع الذي طرحه دولت بهجلي بخصوص حل سياسي مقابل إطلاق سراح أوجلان، جاء بصيغته العمومية المختصرة كتصريح إعلامي، تناولته العديد من الجهات الإعلامية والسياسية على المستويات الرسمية والشخصية، حيث تناول كل طرف الحدث من زاويته الخاصة ومن موقعه السياسي أو الوظيفي.
لسنا بصدد تصنيف مستويات المواقف بقدر ما سنسعى لفهم مضمون ومحتوى المبادرة والاعتبارات التي دفعت الدولة العميقة إلى طرحها في هذا التوقيت. وسنحاول ما أمكن توضيح الأهداف البعيدة لها، وطبيعة علاقتها بالقضية الكوردية في تركيا و سوريا على وجه التحديد ، والمبادرة إذ تبدو متأرجحة بين كونها مشروعاً سياسياً وحلاً للقضية الكوردية وبين ان تكون مجرد صفقة بأهداف محدودة.
لذا فهناك هامش أو مساحة كافية لأصحاب مختلف المواقف والمواقع لان يتناول الموضوع بحسب رؤيته ، فإذا ما أخذنا بفرضية أنها مشروع سياسي لحل القضية الكوردية، عندها لابد من التساؤل عن الجغرافيا التي سوف تكون موضوع هذا المشروع اهو خاص بالمسألة الكوردية في تركيا وفي إطار الدولة التركية ام هو عابر للحدود بما يشمل الساحة السورية للتَمَوضـع في الفراغ الذي يتركه الغياب الإيراني؟ بمعنى أنه يحمل أبعادًا إقليميةً ذات علاقة بالوجود الكوردي في الشمال السوري؟
لكن الحقيقة هو انه هناك من يفكر خارج هذين المسارين إذ يرفض المبادرة جملة وتفصيلًا أيًا كان الهدف منه، إذا نحن امام ثلاث مستويات من المسألة.
- مبادرة بخجلي – أوجلان: بين الأبعاد السياسية والخفايا الاستراتيجية.
المبادرة التي تُطرح على أنها سوف تكون “تاريخية”، يحملها رجل متطرف ومن خلفية تنظيمية فاشية وهو آخر من يُعَوّلُ عليه في المسائل الوطنية الديمقراطية والحلول الوسط ، لذا فمن المؤكد أنه بهذه المبادرة يَضْمر مشروعًا سياسيًا خاصًا بطبيعة الدولة التركية واستراتيجية عمل الدولة مع المحيط الإقليمي ، لكن هذا لا يعني ان المبادرة تحمل ذات الوظيفة وتلك الأهداف بالنسبة لأردوغان، فالعدالة والتنمية تمثل سيرورة الإسلام السياسي التاريخية في تركيا والعثمانية الجديدة على طرفي نقيض مع دولة أتاتورك العميقة، لذا فأردوغان لا ينتمي لتلك الدولة في المنحى الآيديولوجي ويتناولها كصفقة مع الدولة العميقة لتغيير الدستور والبقاء في السلطة ليس إلّا ، إذًا في الجانب التركي المبادرة ذات طبيعة مزدوجة ( مشروع+صفقة ) بين الثنائي المتحالف، الدولة العميقة مع السلطة .
أما في الجانب الكوردي فظاهرية الأمور تبدو سطحية وساذجة للغاية، فبموجب الإتفاق ، يُحَرّر أوجلان مقابل تفكيك حزب العمال الكردستاني (PKK) والتخلي عن السلاح والدخول في عملية سلمية لحل المسالة الكوردية، هكذا ببساطة وكأن هذا هو كل ما في الأمر، وهذا الذي يطفو على السطح من المبادرة قد يبدو مغريًا مع بساطة الطرح وسلاسة أنغام موسيقى جوقة الغناء المرافقة، لكن الحقيقة غير ذلك تمامًا فالمضمر والضبابي المخفي في الجانب الكردي اكثر تعقيدا منه في الجانب التركي، لأن المبادرة بالأساس هو مشروع ممانع موجه لمستقبل المشاريع السياسية الكوردية في الشمال السوري أولا ومن ثم في إقليم كوردستان ثانيا ، وفي التوقيت هو يواكب تداعيات الصراع الإسرائيلي الإيراني وتكهنات سلوك الإدارة الجمهورية القادمة بخصوص مستقبل المنطقة بمعنى انه إجراء إستباقي من جانب الدولة التركية لما قد يحصل في المنطقة من متغيرات مستقبلية .
إذ أنها تخطط لتسويق وشرعنة ال ب ك ك من بوابة سلطة الآمر الواقع في شرقي الفرات تحضيرًا لمرحلة ما بعد الميليشيات، مرحلة البحث في الحلول السياسية مع إعتبارات خطوط الفصل الحالية لمناطق النفوذ كأوراق ضغط تفاوضية مع الأطراف الإقليمية والدولية ذات العلاقة بالشان السوري .
لكن التساؤل المشروع عن دوافع دولت بهجلي، السياسي المتطرف المعروف بعدائه للكورد، لطرح مبادرة سياسية لحل القضية الكردية. كيف يمكن لشخصية قومية متشددة وفاشية أن تدعو إلى مبادرة تبدو وكأنها حل سياسي لقضية تاريخية ؟ الإجابة ربما تكمن في نقطتين أساسيتين الأولى تكمن في التوقيت فعلى الصعيد الإقليمي، تتزامن المبادرة مع تحولات دولية كبرى. فعودة ترامب إلى البيت الأبيض، واحتمالية تعاونه مع بوتين، قد تؤدي إلى تفاهمات جديدة على حساب تركيا وإيران، مما يضع تركيا أمام تحديات استراتيجية تتناقض مع طموحاتها الإقليمية هذا من جهة ومن جهة أخرى، إسرائيل تلعب دوراً محورياً في إعادة تشكيل معادلات الشرق الأوسط التقليدية -كما صرحت بذلك علنا- وستقوم بإنهاء الوجود الإيراني في سوريا عبر ضرباتها وحربها مع حزب الله في لبنان، وهذا يعنى تغيير التوازنات القائمة وفتح الباب أمام تحولات جذرية تغير من الخارطة الجيوسياسية في المنطقة على حساب حدود دول سايكس بيكو.
أما النقطة الثانية فهو استثمار اللحظة التاريخية للضعف الإيراني في سوريا والمنطقة عمومًا والعودة إلى طموحها في الشمال السوري عبر مشروعها التاريخي” الميثاق المللي “، وهو الطموح القومي القديم لإعادة رسم خارطة تركيا بامتدادات توسعية تشمل الشمال السوري.
ولهذا الهدف تحركت الدولة العميقة بإتجاه أربيل لتمهيد الطريق لاتفاق بخجلي – أوجلان.
إذ شهد الإقليم تحركا تركيًا مكثفا لهذا الغرض، حيث الكثير من النشاطات الإعلامية والسياسية والأمنية جاءت في إطار الترويج للاتفاق، بهدف تقديمه على أنه يحمل حلًا سياسيًا يتضمن آفاقاً إيجابية للقضية الكوردية، سواء في تركيا أو سوريا، سعياً لإقناع الإقليم بجدية هذا المشروع، لتسهيل تمرير الإتفاق من خلال تفعيل أدواتها داخل الإئتلاف والمجلس الكردي بمعنى أن الدولة العميقة تدير العملية عبر عدة مفاصل وهي تسابق الزمن لإعادة تشكيل المشهد السياسي في مناطق نفوذ “قسد” قبل ان تخطو إسرائيل خطوتها التالية في سوريا .
- الإعتبارات الممانعة للمشروع.
لكن وبكل الأحوال فالطريق ليس سالكًا امام هذا المشروع لعدة إعتبارات منها: تركية داخلية, داخلية تنظيمية خاصة بال PKK وأيضًا إعتبارات دولية.
فعلى الصعيد الداخلي التركي المناخ السياسي في تركيا ومنذ عهد أتاتورك، عمل على إقصاء التنوع القومي وتعزيز هيمنة القومية التركية. وحتى الثقافة الشعبية والسياسية للشارع التركي ، التي أرسيت قواعدها من قبل الدولة العميقة، تكرّس مشاعر العداء والكراهية لكل ما هو كوردي أو غير تركي، مما يجعل من تركيا بيئة غير مؤهلة للاعتراف بالتعدد القومي.
بمعنى ان القضية الكردية، في هذه البيئة الموبوءة وهذا السياق، لم تُعامل يومًا كقضية سياسية لمكون وطني أو لشعب يعيش على أرضه التاريخية، بل اقتصر الطرح أو التناول – بأفضل حالاته السياسية- على مفهوم “المواطنة المتساوية”، الذي يمنح حقوقًا فردية للكورد دون الاعتراف بهم كشعب. هذا النهج يعكس رفضًا عميقًا لحقوق الكورد القومية ويؤكد غياب أية نية لحل المسألة الكردية من جذورها، خاصة وان المبادرة أطلقتها الحركة القومية التركية، وهي جهة معروفة بتوجهاتها العنصرية والفاشية، فلا يمكن أن تُفهم في سياق السعي لحل سياسي داخلي.
والجدير بالاشارة هو انه مازال هناك عشرات الآلاف من الكورد ومن بينهم صلاح الدين دميرتاش في السجون التركية فلو كانت هنآك نوايا حقيقية لمشروع حل سياسي لبدأ الحل من تلك السجون بإطلاق البعض منهم على الاقل لا أن يقتصر على الحديث على سجن إيمرالي فقط .
بناءً على ذلك، يتضح أن المبادرة ليست مشروعًا داخليًا لحل القضية الكردية، بل أداة لتحقيق أهداف خارجية، تتعلق بتوازنات إقليمية ومصالح تركية تتجاوز حدودها الوطنية من خلال أوجلان.
ومن جانب آخر هناك تحديات كبيرة خاصة بهرمية وتركيبة PKK الداخلية، إذ من الصعوبة بمكان إعادة هيكلة هذه المنظومة أو إعادة تدويرها لأهداف حصرية بحسب مستلزمات الوصفة التركية، والنقطة الأكثر خطورة وحساسية في العملية تتمثل في فصل العناصر الإستخباراتية المتداخلة داخل التنظيم، فإذا ما كانت عملية الدخول والتداخل والتماهي في جسد التنظيم على قاعدة محاربة المشاريع السياسية التحررية الكوردية، كانت قد إتسمت بالسهولة والسلاسة والتوافقية على هدف محدد ومعرف، فعملية الفصل لن تكون بتلك السهولة على قاعدة إفتراق الأهداف، وستكون محفوفة بالكثير من المخاطر وسوف تكون دموية مع تشابك المصالح الإقليمية، وهنا يبرز الدور الإيراني بشكل خاص، حيث لن تقف طهران مكتوفة الأيدي أمام أي محاولة تركية لتقويض التنظيم. بفضل نفوذها داخل PKK، خاصة عبر شخصيات مثل جميل بايك، تمتلك إيران أدوات قوية لإفشال هذه المساعي التركية، مما يجعل عملية التفكيك شديدة التعقيد مما يزيد من تفاقم الأوضاع الأمنية والسباسية في مناطق نفوذ ال PKK في سوريا والعراق .
أما التحدي الأكبر امام هذا المشروع هو التموضع الأمريكي في منطقة شرقي الفرات التي هي من الركائز الحيوية لأي مشروع جيوسياسي في المنطقة بحكم أهمية موقعها الجيواستراتيجي بالنسبة للأردن والعربية السعودية . لذا فليس من السهولة بمكان الإتفاق مع الولايات المتحدة الامريكية على أي إتفاق او مشروع يمس الإستراتيجية الأمريكية في المنطقة وخاصة في الظرف الراهن . حيث الإدارة الأمريكية الجديدة، لم تستكمل بعد تشكيل هيكليتها السياسية والإدارية، تكون قد أبرمت أو حتى ناقشت ترتيبات سياسية مع تركيا في هذا السياق.
علاوة على ذلك، فإن التموضع الأمريكي في شرق الفرات ليس تموضع تكتيكي خاص بحالة مؤقتة، بل هو جزء من مشروع طويل الأمد يعكس استراتيجية مشتركة مع حلفائها في مصر والأردن والعربية السعودية وإقليم كوردستان. ومجرد التفكير بأن الولايات المتحدة قد تتخلى عن هذا النفوذ لصالح تركيا أو أي جهة أخرى هو تصور غير واقعي. وإذا كانت تركيا تراهن على ذلك، فإنها تقع في خطأ سياسي كبير يعكس سوء فهم عميق للديناميكيات الدولية.
كما ان سياسات الولايات المتحدة تجاه منطقة شرق الفرات أثبتت على مدى سنوات أنها غير متأثرة بالاتفاقات الثنائية أو الإقليمية التي تُعقد دون مشاركتها المباشرة. سواء كانت هذه الاتفاقات في إطار محادثات آستانة أو تفاهمات بين تركيا وروسيا، فإن واشنطن لم تعرها أي اهتمام يُذكر، معتبرة أن نفوذها في المنطقة أمر غير قابل للتفاوض.والتمسك الأمريكي بمواقع النفوذ في شرق الفرات يعكس قناعة استراتيجية بأن التخلي عن هذه المنطقة لا يعني فقط خسارة اموقع جغرافي، بل يعني التخلي عن ركيزة حيوية في سياساتها الإقليمية والدولية. ومن هنا، يبدو أن أي مشروع تركي يسعى لإعادة ترتيب التوازنات في شرق الفرات، بدون موافقة واشنطن، محكوم عليه بالفشل.
وأخيرًا علينا ان ننوه مخاطر هذا المشروع على مستقبل إقليم كوردستان الذي هو من إحدى أهدافه،
- مخاطر المشروع على الأمن الإقليمي.
والخطورة تكمن في الاستخدام المستقبلي لورقة أوجلان كأداة ضد الكيان الكوردستاني القائم. وتركيا (الدولة العميقة)، التي تسعى منذ سنوات للنيل من هذا الكيان الدستوري في العراق وتسميه بأسماء أخرى غير إسمه ، تجد في هذه المبادرة فرصة مؤاتية للنيل منه، وتوظيف كل أدواتها السياسية والإعلامية لتقويض خطى التحرر الوطني من داخل الإقليم وخارجه، مما يضع المستقبل أمام مفترق طرق جديدة، محفوف بالمخاطر.
لذا ينبغي على قيادات إقليم كردستان أن تتبنى نهجًا استراتيجيًا واعيًا لمواجهة هذا المخطط العدواني الممنهج، الذي قد يستهدف الإقليم من الداخل. كما يتطلب الحذر من محاولات التغلغل التي تتبناها أدوات المشروع التركي، والتي غالبًا ما تتخفى خلف شعارات قومية زائفة تهدف إلى إغراء الداخل الكوردي واستمالته.
إن التصدي لهذا الخطر يستوجب وعيًا عميقًا يتناسب مع أبعاد هذا المشروع وأهدافه، ولتحقيق ذلك يجب قطع الطريق على كل محاولات التسلل إلى الداخل أيًا تكن عناوينها ، وتعزيز منظومة الحصانة السياسية والإدارية للإقليم بما يضمن تحصين هذا الكيان الكوردستاني من أي تهديد خارجي.
ختامًا، يبدو أن مبادرة بخجلي-أوجلان ليست سوى حلقة في سلسلة مشاريع تركية تهدف إلى استغلال كل الأوراق المتاحة لتحقيق طموحاتها الإقليمية. وأوجلان ليس إلا إحدى هذه الأوراق،ومع ذلك، فإن التناقضات الداخلية والإقليمية، فضلاً عن المتغيرات الدولية، تجعل نجاح هذه المبادرة في تحقيق أهدافها أمراً بعيد المنال.