عبدالجابر حبيب
مقدمة: أوهام التحالف وسراب الدعم الأمريكي
لطالما قدمت الولايات المتحدة نفسها كحليف قوي يعتمد عليه، داعمةً لقوى سياسية وعسكرية في مختلف أنحاء العالم. غير أن الواقع يثبت خلاف ذلك، حيث تمتلئ صفحات التاريخ بحالات تخلت فيها واشنطن عن أقرب شركائها في لحظات مفصلية، ما أدى إلى انهيارهم أو تحولهم إلى أعداء لها. من شاه إيران إلى الأكراد، ومن طالبان إلى دول أفريقية، تتكرر الرواية ذاتها: الدعم الأمريكي مؤقت، والمصالح هي التي تحكم. واليوم، مع الحديث عن انسحاب محتمل من شمال شرق سوريا، يطرح السؤال نفسه: هل ستكون “قسد” حليفاً استثنائياً أم مجرد ورقة أخرى ستحترق في لعبة المصالح؟
– حين تصبح الصداقة عبئاً على أمريكا
– سقوط شاه إيران: نهاية رجل وثق بأمريكا
كان محمد رضا بهلوي، شاه إيران، من أكثر الحلفاء المقربين لواشنطن، إذ اعتمد على دعمها السياسي والعسكري منذ الخمسينيات. غير أن انتصار الثورة الإيرانية عام 1979 كشف هشاشة هذا التحالف، إذ لم تتدخل الولايات المتحدة لإنقاذ حليفها من السقوط. وعندما لجأ إليها طالباً الحماية، تخلّت عنه سريعاً، ليعيش سنواته الأخيرة منفياً بين عدة دول، قبل أن يموت وحيداً في القاهرة.
– البرزاني والاستفتاء: طعنة في خاصرة الحلم الكردي
في عام 2017، كان مسعود البرزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، يعتقد أن دعمه من قبل واشنطن في الحرب ضد داعش، وتسليحه بأفضل المعدات العسكرية الأمريكية، سيضمن له دعمها في مشروع الاستقلال. لكن بعد إجراء الاستفتاء، لم تكتفِ واشنطن بالتخلي عنه، بل سمحت للحكومة العراقية باستخدام السلاح الأمريكي ضد الإقليم. وجد البرزاني نفسه معزولاً، وأجبر على الاستقالة، في مشهد يذكر بما حدث لوالده مصطفى البرزاني حين تخلى عنه الأمريكيون بعد اتفاق العراق مع الشاه عام 1975.
– طالبان: من حليف إلى عدو ثم إلى شريك مجدداً
خلال الحرب ضد الاتحاد السوفيتي في الثمانينيات، دعمت الولايات المتحدة طالبان وغيرها من الجماعات الجهادية بالمال والسلاح. لكن مع انتهاء الحرب، تحولت طالبان إلى عدو رئيسي بعد أحداث 11 سبتمبر 2001. وبعد عشرين عاماً من القتال، انسحبت واشنطن فجأة من أفغانستان عام 2021، تاركةً حلفاءها الأفغان لمصيرهم، لتعود طالبان إلى الحكم وسط مشهد فوضوي يعكس عمق التخبط الأمريكي.
– باكستان: الشريك الذي لم يعد مفيداً
كانت باكستان شريكاً استراتيجياً لواشنطن خلال الحرب الباردة، لكنها وجدت نفسها في مرمى الانتقادات الأمريكية بعد أن تغيرت الأولويات. في عهد ترامب، وصفها بأنها “ملاذ للإرهابيين”، وأعلن تقليص الدعم المالي والعسكري لها، ما دفع إسلام آباد إلى تعزيز علاقاتها مع الصين وروسيا، في تحوّل استراتيجي يعكس هشاشة التحالفات الأمريكية.
– قسد وتركيا: في الميزان الأمريكي
– تصريحات فرهاد الشامي: قراءة في الموقف الأمريكي
في ظل التقارير المتزايدة حول نية الولايات المتحدة سحب قواتها من شمال شرق سوريا، صرّح فرهاد الشامي، المتحدث باسم قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، بأنهم لم يتلقوا أي خطط لانسحاب القوات الأمريكية من المنطقة، محذراً من أن “داعش والقوى الخبيثة الأخرى تنتظر فرصة الانسحاب الأمريكي لإعادة النشاط والوصول إلى حالة 2014” . هذا التصريح يعكس قلق قسد من تكرار سيناريوهات سابقة تخلت فيها واشنطن عن حلفائها.
– انتقادات سربست نبي: سذاجة أم واقعية؟
تعليقاً على تصريحات الشامي، وجّه الدكتور سربست نبي، أستاذ الفلسفة السياسية، انتقادات لاذعة، معتبراً أن قسد تعتمد بشكل مفرط على الدعم الأمريكي دون بناء قدرات ذاتية حقيقية. ورأى أن تصريحات الشامي تعكس سذاجة سياسية، محذراً من أن الاعتماد على واشنطن قد يؤدي إلى مصير مشابه لحلفاء سابقين تخلت عنهم الولايات المتحدة.
– ردود الفعل على وسائل التواصل الاجتماعي
أثارت هذه التصريحات والانتقادات نقاشات واسعة على منصات التواصل الاجتماعي. فبينما أيد البعض تحذيرات نبي، معتبرين أن الاعتماد على الولايات المتحدة خطأ استراتيجي، رأى آخرون أن قسد ليست لديها خيارات أخرى في ظل التهديدات المحيطة بها. كما دافع البعض عن الشامي، مشيرين إلى أن تصريحاته تعكس واقعاً معقداً يتطلب توازناً دقيقاً بين التحالفات الدولية والقدرات الذاتية.
– تركيا الرابح الأكبر؟
في المقابل، تبقى تركيا شريكاً أكثر أهمية من منظور استراتيجي، كونها عضواً في الناتو وتمتلك جيشاً قوياً. رغم التوترات بين أنقرة وواشنطن، إلا أن أمريكا تدرك أن علاقتها بتركيا لا يمكن أن تنتهي كما انتهت علاقتها بقسد، خاصةً مع تصاعد النفوذ الروسي في المنطقة. لذا، في أي مقارنة بين قسد وتركيا، تبقى الأخيرة الرابح الأكبر، وإن كان ذلك على حساب حلفاء أمريكا الأكراد.
– هل تفكر أمريكا في الانسحاب من سوريا؟
خلال الأسابيع الأخيرة، تصاعدت الأحاديث عن احتمال انسحاب أمريكي من شمال شرقي سوريا، وسط مؤشرات على تفاهمات مع تركيا وروسيا. هذا السيناريو ينسجم مع نهج واشنطن التاريخي في التخلي عن الحلفاء عندما تقتضي مصلحتها ذلك. إذا تحقق هذا الانسحاب، فقد تجد قسد نفسها بلا دعم، تماماً كما حدث مع الحكومة الأفغانية عام 2021.
– خاتمة: دروس التاريخ لا تُنسى
لا جديد في سياسات أمريكا المتقلبة، فهي تتخلى عن حلفائها عندما تتغير مصلحتها. من شاه إيران إلى الأكراد، ومن طالبان إلى الحكومات الأفريقية، يتكرر السيناريو ذاته. واليوم، مع اقتراب لحظة الحسم في سوريا، يبقى السؤال الأهم: هل ستدرك قسد الدرس قبل فوات الأوان، أم ستجد نفسها وحيدةً في مواجهة عدو قديم جديد؟