ريزان شيخموس
في الثامن من ديسمبر، سقط النظام الأسدي بعد عقود من القمع والاستبداد، وساد الفرح أرجاء سوريا من أقصاها إلى أقصاها. خرج الناس إلى الشوارع يهتفون للحرية، يلوّحون بأعلام الثورة، وتغمرهم مشاعر النصر والكرامة. لقد ظنّ السوريون أنهم طووا صفحة قاتمة من تاريخهم، وأن الطريق بات سالكاً نحو دولة مدنية ديمقراطية تحتضن كل أبنائها دون إقصاء أو تهميش.
جاء الدعم الدولي للحكومة الانتقالية واسعاً وسريعاً. فتحت الدول العربية أبوابها، وباركت معظم دول المنطقة والغربية هذا التحوّل، وقدّمت كل أشكال الدعم، بشروط واضحة لا لبس فيها: إشراك جميع مكونات الشعب السوري دون استثناء في صناعة مستقبل البلاد، واعتماد خطاب جامع، ومؤسسات تمثل الجميع.
كانت أولى الخطوات في هذا المسار هي عقد مؤتمر النصر، الذي جُمع فيه ممثلو ما سُمّيت بـ”الفصائل الثورية”، رغم الملاحظات العديدة على شرعيتها، وتبعيتها، خصوصاً لأولئك المرتبطين بتركيا. فقد غابت الروح الوطنية عن كثير من هؤلاء، وكان واضحاً أن أجنداتهم مرتهنة لقوى إقليمية أكثر مما هي نابعة من الإرادة السورية.
ورغم ذلك، قرّر المؤتمر تنصيب احمد الشرع رئيساً انتقالياً، وحل جميع الأجسام السياسية والعسكرية المعارضة. بدا ذلك وكأنه محاولة لفتح صفحة جديدة، ولكن طريقة التنفيذ، وشكل التمثيل، سرعان ما أثارت الشكوك.
بعد تنصيب الشرع، تم الإعلان عن تشكيل “لجنة الحوار الوطني السوري”، لكن اللجنة كانت من لون واحد، خالية من التنوع الذي وعدت به المرحلة الانتقالية. والأدهى من ذلك، أن الخطابات والبيانات الصادرة عن الشرع كانت موجّهة إلى الخارج، لطمأنة المجتمع الدولي، لا إلى الداخل السوري، الذي ينتظر أفعالاً لا أقوالاً.
ثم جاء الإعلان عن إلغاء المؤتمر الوطني العام، واستبداله بمؤتمر “الحوار الوطني”، والذي كان شكلياً بامتياز، لم تتم فيه دعوة ممثلي المكونات الحقيقية للشعب السوري. فقد تم توجيه الدعوات لأطراف متوافقة مع الحكومة الانتقالية، فيما تم استبعاد الممثلين الحقيقين لكل المكونات و القوى السياسية والاجتماعية الفاعلة على الأرض. بدا المؤتمر أشبه بمسرحية سياسية، لا تعكس واقع المجتمع السوري المركب.
ثم جاءت الخطوة الثالثة، الأكثر حساسية، وهي تشكيل لجنة إعداد الإعلان الدستوري. المفترض أن هذا الإعلان يمثل خريطة الطريق لسوريا الجديدة، لكنه، للأسف، جاء من لجنة ضيقة التمثيل ومن لون واحد ، احتكرت الرؤية والصياغة، وأقصت معظم الطيف السوري، خاصة الكرد والمسيحيين والعلمانيين. لم يكن هناك أي حوار مجتمعي، ولا حتى نقاش حقيقي حول هوية الدولة، نظامها السياسي، أو الضمانات المستقبلية للحريات وحقوق الإنسان بل زاد من صلاحيات الشرع وتثيب اركان المركزية المفرطة ، واسم الجمهورية وحقوق المكونات ومن ضمنهم حقوق الشعب الكردي المشروعة .
وفي خضم هذه الفوضى، شهد الساحل السوري مجازر دموية بحق المدنيين العلويين تحت ذريعة “فلول النظام”. تم ارتكاب جرائم مروعة، لم تُدان بشكل واضح من قبل الحكومة الانتقالية، مما رسّخ شعوراً بأن العدالة انتقائية، وأن الانتقام يعلو على المصالحة. هذه الجرائم، وإن نُفّذت على يد جماعات غير رسمية، إلا أن صمت الحكومة المؤقتة عنها أوحتى بتواطؤ أو تهاون، وأشعل نيران الانقسام الطائفي من جديد.
ورغم تشكيل لجنة “تقصي الحقائق”، إلا أنها كانت شكلية، دون صلاحيات حقيقية، هدفها امتصاص الضغط الدولي أكثر من كونها أداة لتحقيق العدالة. المجازر لا تزال مستمرة، والثقة الدولية تتراجع بسرعة.
في محاولة لتخفيف التوتر، تم الإعلان عن اتفاق بين الشرع وقائد “قسد” مظلوم عبدي، يقضي بضمان حقوق الكرد، ومشاركتهم في الحكم، ووقف أي عمليات عسكرية ضد مناطقهم. لكن هذا الاتفاق بقي حبراً على ورق. لم يُدرج أي من بنوده في الإعلان الدستوري، ولا في أي خطوات لاحقة. بل على العكس، بدأت حملة إعلامية وتحريضية ضد “قسد”، واتهامها بالانفصالية، ما يؤكد أن نوايا الحكومة الانتقالية لم تكن جادة تجاه الحل السياسي الشامل ، رغم الحوار المستمر بين الطرفين ولكن لازال التنفيذ والتعامل الإعلامي بعيد كل البعد عن الواقع.
رغم أن أحد الشعارات الأولى للمرحلة الانتقالية كان “الحفاظ على وحدة الأراضي السورية”، إلا أن الواقع العملي يدلّ على العكس تماماً. لا أحد من السوريين، مهما اختلفت انتماءاتهم، يسعى إلى تقسيم سوريا. فالجميع، بمختلف المكونات القومية والدينية والسياسية، يطمح إلى دولة موحّدة ذات سيادة، تحفظ كرامة المواطن وتضمن حقوق الجميع.
لكن ما يحدث على الأرض يشير إلى أن سياسات الحكومة الانتقالية هي التي تدفع نحو التفكك والانقسام. فالإقصاء المستمر، وتهميش المكونات، وتهوين آرائهم لمجرد اختلافها مع الخط العام للسلطة، يؤسس لبيئة قابلة للانفجار. السلطة الانتقالية لا تتسامح مع أي رأي ناقد أو طرح بديل، وتتعامل مع المعارضة السياسية كما كان يفعل النظام السابق: عبر التخوين، والتهميش، والعزل.
بدلاً من بناء دولة جامعة، تسير السلطة الانتقالية في اتجاه فرض هوية واحدة، ونمط حكم فوقي لا يعترف بالتعدد، مما يزيد من خطر الانقسام الجغرافي والسياسي، حتى وإن لم يُعلن رسمياً.
في ظل هذا المشهد المعقد، يبرز الصراع التركي – الإسرائيلي كعامل خارجي يزيد من هشاشة الوضع السوري. فكلا الطرفين له امتداداته داخل الساحة السورية، سواء عبر الفصائل المسلحة أو عبر ملفات الأمن الإقليمي. الشعب السوري هو من سيدفع ثمن هذا التصادم، خاصة في ظل ضعف السلطة الانتقالية، وتخبطها في إدارة العلاقات الدولية.
إذا لم تتمكن الحكومة الانتقالية من تحييد سوريا عن هذه التجاذبات، وفرض إرادة وطنية جامعة، فستُستخدم الأرض السورية كساحة صراع بين قوى لا يعنيها مستقبل البلاد بقدر ما تعنيها مصالحها الاستراتيجية.
ما يدعو للقلق أن بعض مسؤولي السلطة الانتقالية يروّجون لفكرة أن سوريا تحتاج إلى “تجربة خاصة بها”، وكأن الوقت مفتوح، وكأننا نملك ترف التجريب. الحقيقة أن الوقت ضيق جداً، وأن الوضع لا يحتمل المراوغة. المطلوب هو الاستفادة من تجارب الدول التي خرجت من أزمات مشابهة: جنوب إفريقيا، كوسوفو، رواندا، وحتى العراق. لا مبرر لاختراع العجلة من جديد. لدينا نماذج واضحة يمكن تكييفها، شرط توفّر الإرادة السياسية والرغبة في بناء دولة حقيقية لا سلطة بديلة.
من الواضح أن ما سُمّي بـ”المرحلة الانتقالية” قد أعاد إنتاج الأزمة السورية بشكل جديد. لم يكن النظام الجديد بديلاً ديمقراطياً عن النظام السابق، بل بدا كأنه استمرار له بأدوات مختلفة. لقد تم تهميش مكونات رئيسية، وفي مقدمتها الكرد، الذين لطالما لعبوا دوراً محورياً في محاربة الإرهاب، وفي دعم المشروع الوطني السوري.
ولا يمكن تحقيق السلام والاستقرار في سوريا دون حلٍّ سياسي حقيقي للقضية الكردية، يُقرّ بالحقوق الثقافية والإدارية، ويؤسس لنظام لامركزي يتيح لكل منطقة إدارة شؤونها ضمن إطار الدولة السورية.
الكرد بحاجة اليوم إلى وحدة الصف والموقف، وتشكيل وفد تفاوضي موحّد يمثل جميع الأطراف الكردية، من أجل التفاوض مع الحكومة الانتقالية وبقية مكونات الشعب السوري، على أساس الشراكة، لا التبعية؛ وعلى أساس المواطنة، لا المحاصصة.
إذا كانت المرحلة السابقة قد طُويت بسقوط النظام، فإن المرحلة الجديدة يجب أن تُبنى على أسس مختلفة: التعدد، الحوار، العدالة، والمواطنة المتساوية. لا يمكن لسوريا أن تنهض وهي تستنسخ الإقصاء والهيمنة والفساد، مهما تغيرت الوجوه.
على الحكومة الانتقالية أن تثبت جديّتها، وأن تفتح الأبواب أمام مشاركة حقيقية لكل السوريين، وأن تبدأ فوراً بمراجعة الإعلان الدستوري، والدعوة لحوار وطني جامع لا يُقصي أحداً.
فالوقت لم يفت بعد… لكن النافذة تضيق.