حسن عبدالله
لم تكن محاولات تفكيك البنية السكانية الكردية في كردستان سوريا طارئة أو متقطعة، بل هي مشروع طويل الأمد، أخذ أشكالاً مختلفة باختلاف الحاكمين والحقب، إلا أنه حافظ على هدفه الثابت: كسر الوجود الكردي، وإعادة تشكيل الجغرافيا الديموغرافية بما يضمن عدم قيام أي كيان كردي متماسك، ولو كان ثقافياً أو مجتمعياً.
لقد بدأت أولى ملامح هذا المشروع منذ أواخر العهد العثماني، عندما شرعت الدولة في محاولة ضبط أطرافها الشاسعة عبر ما سُمِّي بسياسات التنظيمات، وخاصة في عهد السلطان عبد المجيد. كان الهدف الظاهري هو ضبط حركة القبائل البدوية وتوطينها، إلا أن ما جرى فعلاً في المناطق الكردية اتخذ طابعاً مختلفاً، تمثّل في إسكان عشائر عربية مثل شمر وعنزة في مناطق ذات كثافة كردية كتل براك، تل حميس، الدرباسية، ورأس العين. لم يكن ذلك مجرد إجراء إداري، بل بداية لتبديل التركيبة السكانية، وتقويض الامتداد الجغرافي الكردي لصالح فسيفساء سكانية مُشتتة وغير متجانسة، تخدم مصالح الدولة المركزية وتضعف احتمالات التمرد أو الاستقلالية.
تعمّق هذا النهج لاحقاً في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، إذ تحوّلت السياسات العشوائية إلى استراتيجية أكثر انتظاماً، فتم تشكيل الفرق الحميدية من خليط قبلي مختلط، شمل العرب والتركمان والكرد أنفسهم، في محاولة لخلق توازن مفروض ضمن المناطق الكردية. كانت الغاية واضحة: خلط التركيبة الاجتماعية بحيث يصبح الانتماء الإثني والسياسي ضعيفاً، ويمكن التحكم به من المركز.
وعندما تسلم حزب البعث الحكم في سوريا عام 1963، وجد أن البنية الديموغرافية في الشمال الشرقي لا تزال صامدة رغم سياسات التهميش، فابتكر خطة جديدة أكثر قسوة وتنظيماً، عُرفت لاحقاً باسم “مشروع الحزام العربي”. بعد بناء سد الفرات عام 1973 وغمر مناطق شاسعة حول الطبقة، تم استغلال الكارثة البيئية لتهجير عشرات الآلاف من العرب من مناطق الغمر، وتوطينهم في القرى الكردية المحاذية للحدود مع تركيا، في شريط طوله 375 كم، وعرضه ما بين 10 إلى 15 كم. لم يكن هذا القرار إدارياً أو اقتصادياً، بل مشروعاً سياسياً بامتياز.
استُبيحت أراضي الكرد، فحُرموا من التمليك، ولا سيما فئة “الأجانب” الذين أفرزهم إحصاء عام 1962، وسُحبت منهم أوراقهم الرسمية. وفي الوقت ذاته، أُنشئت قرى جديدة للمستوطنين العرب تحت تسميات ذات طابع أيديولوجي مكشوف مثل العروبة، الثورة، البعث، تشرين… لم تكن الأسماء مجرد رموز، بل رسائل صريحة: أن الكرد غرباء على أرضهم، وأن مشروع التعريب قد بدأ ولن يتوقف.
أدى هذا التغيير المفروض إلى خلخلة البنية المجتمعية الكردية. فُككت القرى التقليدية، تمزق النسيج الجغرافي والاجتماعي، وظهر توتر دائم بين السكان الأصليين والمستوطنين المفروضين بقوة الأمن والسلطة. كما سُحقت الذاكرة الثقافية الكردية بإلغاء أسماء القرى الأصلية، وتعريب كل ما يمكن تعريبه، في محاولة لمحو الهوية والوجود الرمزي للكرد في المكان.
الأخطر من ذلك أن هذا المشروع لم يكن لحظة عابرة من القسوة السياسية، بل ترك أثراً دائماً، لا تزال تداعياته قائمة حتى اليوم. ففي سوريا الرسمية، ما زالت الخرائط تُظهر الأسماء المعربة، وما زالت الحقوق القانونية للأراضي الكردية موضوع جدل لم يُحسم. بل إن بعض المستوطنين لم يحصلوا على عقود رسمية، مما أدى إلى نزاعات لاحقة، وفتح الباب أمام قوى جديدة لاستغلال الفراغ، سواء تلك التابعة للنظام أو للجهات الدولية أو الفصائل المسلحة.
المأساة أن الثورة السورية، التي كان يُفترض أن تفتح باب العدالة للجميع، لم تلتفت لهذه المعضلة، بل على العكس، استخدم بعض أطرافها ما بدأه البعث كورقة تفاوض أو ضغط أو حتى تهديد. وبدلاً من إعادة الحقوق لأصحابها، جرى تدوير الظلم باسم التوازنات.
إن مشروع الحزام العربي، وغيره من مشاريع التوطين، لم يكن مجرد سياسة إسكانية، بل فعل عنف منظم ضد شعبٍ بأكمله. إنه شكل من أشكال الاستعمار الداخلي، وتجسيد لفكرة الإلغاء السياسي عبر التغيير الديموغرافي. لذلك فإن أي محاولة للحديث عن مصالحة وطنية حقيقية لا يمكن أن تتجاهله، أو تمر عليه مرور الكرام.
الكرد لا يطلبون الانتقام، بل العدالة. يريدون استعادة أراضيهم، وهويتهم، وحقهم في الوجود، لا أكثر. أما من يعتقد أن بإمكانه بناء مستقبل سوريا من دون معالجة هذا الجرح المفتوح، فهو كمن يزرع على سطح ماء.
الهوامش والمراجع:
- الحسيني، حسن صالح. الكرد وكردستان في الوثائق العثمانية، دار الزمان، دمشق، 2009.
- Ramko, Sirwan. Syrian Arab Belt Policies, Stockholm Kurdish Studies Center, 2012.
- McDowall, David. A Modern History of the Kurds, Third Edition, I.B. Tauris, 2004.
- Jwaideh, Wadie. The Kurdish National Movement, Syracuse University Press, 2006.
- مقابلة مع فؤاد عليكو، أرشيف مركز يكيتي ميديا، 2020.