مائة يوم من السقوط: محطات هائلة من التحولات كأنها قرن

إبراهيم اليوسف

 

مرت مئة يوم منذ سقوط النظام، وشهدت البلاد تحولًا سريعًا- يشبه ما يحدث في الخيال العلمي- وكأنها عاشتها على مدى قرن بل قرون. هذه الفترة القصيرة كانت مليئة بالأحداث الجسيمة التي بدت وكأنها تحولات تاريخية، رغم قصر الوقت. ومع كل هذه التغيرات، تبقى الحقيقة المرة أن السوريين يواجهون تحديات أكبر من أي وقت مضى.

بدأت المرحلة الجديدة بتشكيل دستور مؤقت منح الرئيس صلاحيات واسعة، وهو ما كان يعد خطوة أولى نحو إعادة بناء الدولة. كان من المفترض أن يتولى السيد أحمد الشرع المسؤولية مؤقتًا، ليقود سوريا إلى مرحلة انتقالية يسلم فيها البلاد إلى سياسيين ذوي كفاءة، خلال أشهر فحسب. لكن مع مرور الأيام، اتضح أن الأمر كان مختلفًا تمامًا. بدلاً من أن تكون السلطة في يد حكومة انتقالية قادرة على اتخاذ قرارات جريئة، ازدادت قبضة الرئيس على مقاليد السلطة، واختفت الآمال التي كانت تدور حول تسليم البلاد إلى سياسيين مهنيين، بعد أن تم استلام سوريا- مصادفة- لمتعهدين عسكريين، وفق تزكية إقليمية دولية، فر على إثرها رأس النظام المجرم بشار الأسد وبعض زبانيته المقربين!

بينما كان يُتوقع أن تشهد سوريا سلسلة من الإصلاحات الحقيقية، شهدنا انعقاد  أشباه مؤتمرات عدة، مثل “ما يسمى ب”مؤيتمر” الحوار الوطني” و”ما يسمى بمؤيتمر النصر”. هذه” المؤيتمرات” كانت عبارة عن محاولات للتجميل  والمكيجة والتغطية على الواقع القائم، حيث تم إقصاء الكرد كقومية ثانية كما تم إقصاء مكونات أخرى، رغم أن دورهم في الثورة كان بارزًا في كثير من الجوانب. ومع تشكيل اللجنة التحضيرية للدستور، لم يكن هناك أي تمثيل حقيقي للكرد، بل كان التشكيل يتجاهل حتى حقوقهم الدستورية، ويستمر في إبعاد الحركة الكردية عن أي مشاركة حقيقية في الحكومة أو الدستور الجديد. كما لم تشهد التشكيلات الوزارية وجودًا لممثلين من الحركة الكردية، وهو ما يمثل تجاهلًا واضحًا لحقوق فئة مهمة في المجتمع السوري.

من الجوانب الإيجابية، كان التوقيع مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) من بين أبرز الخطوات التي ساهمت في منع إراقة الدماء، على الرغم من تعقيد الوضع العسكري في البلاد. هذا الاتفاق كان مهمًا لتقليل العنف في مناطق محددة، إلا أن الحلول السياسية كانت محدودة ولم تلبِّ احتياجات السوريين بشكل كامل. كان من المفترض أن يعترف الدستور بحقوق الكرد كقومية ثانية-أجل- ويثبت حقوقهم في إطار التعددية، لكن ذلك لم يتحقق. وفي الوقت نفسه، كان هناك استبعاد مستمر للمعارضة التاريخية التي كان من المفترض أن يكون لها دور أكبر في رسم معالم المرحلة القادمة، وأستثني هنا: كل من كان مؤتمراً بأيدي الخارج، ووقف مع الاحتلال التركي، أو من تلوثت أيديهم بالدم والمال السياسي!

التدخلات الخارجية كانت حاضرة في كل مرحلة، ومع الحرب المستمرة في الساحل السوري، ازداد التوتر بين الفصائل المختلفة، وتلقى المدنيون العزل المزيد من المعاناة. بينما كان أكبر منجز بعد سقوط الأسد إخراج الفصائل من عفرين، إلا أن جميع مدن وأرياف سوريا لاتزال محكومة بالواقع المرير لآثار الحرب التي لم يكن لها نهاية واضحة، بما ألحق بالبلاد من دمار وتهجير وتجويع وهوما كان يجب الاشتغال عليه إسعافياً منذ اللحظة الأولى. كما لا نزال في انتظار محاكمة مجرمي الحرب على مستوى البلاد منذ بداية مجازر الحرب وحتى مجازر الساحل، عبر تطبيق أسس العدالة الانتقالية، لكن هذه المبادرة لم تجد الدعم الكافي من المجتمع الدولي، ما أدى إلى استمرار الوضع دون محاسبة حقيقية.

ومع تصاعد التوترات بين تركيا وإسرائيل على الساحة السورية، بدا أن المصالح الإقليمية تتصادم بشكل كبير. تركيا كانت تسعى لتوسيع نفوذها في سوريا، تحت ستار العداء للكرد، معتبرة أن أي اتفاق يجب أن يتم تحت إشرافها، بينما إسرائيل كانت تحاول جعل سوريا دولة ضعيفة ومقيدة يمكن السيطرة عليها بسهولة. كما أن التدخل الروسي والأمريكي الذي فهم طويلاً أنه يتأسس على تناقضات واضحة ووجهات نظر متضادة، بات يخضع للتفاهمات الجديدة، بين هاتين القوتين اللتين كانتا مع تركيا وإيران سبباً في استمرار الحرب وحكم نظام الأسد والدمار والقتل والتهجير في سوريا.

السوريون، على اختلاف توجهاتهم، يطمحون في استتباب السلام والأمن، مقرونين بتامين سبل الحياة الكريمة من مسكن- بعد دمار ومأكل ومشرب وضمان صحي وثقة بعد نسف كل ذلك نتيجة آلة الحرب التي كان التدخل الدولي عاملاً مفاقماً في افتقادها كلها. ولكن، ما حدث في الساحل السوري وما يجري من هيمنة الراديكاليين في بعض المناطق، إضافة إلى ما يسمى بالانتهاكات الفردية والتحولات التي شهدتها الشوارع والجامعات بتحويل بعضها إلى أماكن عبادة دينية بشكل مفرط، تعد مؤشرات غير مطمئنة على الوضع القائم. المواطن السوري البسيط، الذي كان يأمل في التغيير بعد سقوط النظام، بات يواجه حالة من الانقسام الداخلي والضغوط الخارجية التي تدفع بها بعض الدوائر وبعض بؤر الفصائل ذات التاريخ السيء ناهيك عن الدور الذي يلعبه بؤر من ملايين البعثيين الذين رضعوا من صدرالنظام السابق وقفزوا إلى مركبة العهد الجديد ولهم مواقف عنصرية من بعض الأقليات: الكرد- الدروز- العلويين- المسيحيين

أجل، إن مواطننا لا يسعى وراء شيء غير أساسي، بل يريد الخبز والماء والكهرباء والهواء النظيف والأمان، والحد الأدنى من الحياة الكريمة. إنه في حاجة إلى حياة إسعافية توفر له الحد الأدنى من مقومات الوجود، بعيدًا عن الصراعات السياسية والأمنية التي تستهلك البلاد وتنهكها يومًا بعد يوم.

ورغم كل هذا، تبقى سوريا في مفترق الطرق، حيث لا يزال الشعب السوري يعاني من حالة من الضياع، في انتظار تحولات أخرى قد تكون أكثر عمقًا، أو قد تظل محكومة بالصراعات الإقليمية والدولية التي لا تنتهي. فما كان يُفترض أن يكون مائة يوم من التحولات نحو الأفضل، تحول إلى سلسلة من الأزمات المتواصلة، ليبقى السؤال: هل ستتمكن سوريا من تجاوز هذه التحديات، أم أن الصراع سيظل مستمرًا دون أفق واضح؟

ومن هنا فإنه يمكن مناشدة اللاهثين إلى تحقيق العطش والجوع إلى السلطة:

دعوا لكم كراسي السلطة ولكن اسمعوا سورييكم لا الأوصياء عليكم أية كانت هوياتهم!

 

من يستلم يقرّر جور ووجوه تتكرر!

ما أشبه البدايات بالنهايات، وما أشبه الوجوه التي تتبدّل بتلك التي سبقتها!
حين يُخلع نظامٌ مستبدّ من موقعه، تُقرع طبول الفرح كما لو أن فجرًا جديدًا بزغ بعد ظلمة طويلة. لكن، سرعان ما يكتشف الناس أن المسرح لم يتغيّر كثيرًا، وأن التمثيل مستمرّ بوجوه جديدة، ولكن بنصٍّ قديم، حتى وإن اختلفت شعاراته، أو تضادت مع السابق، عبر منهج أكثر تحايلاً، وأنجع سطوة وتخديراً.

لقد قيل إن المرحلة السابقة انتهت، وإن صفحة جديدة بدأت. لكن بأي وسيلة؟ لم تكن ثورة حقيقية على نظام الظلم، بل مجرّد انتقال شكلي في سلطة القرار، وفق منطق التسليم والتسلُّم، لا بناءً على تفكيك منظومة الاستبداد، ولا على قاعدة محاسبة ومراجعة جذرية، عبر تطبيق العدالة الانتقالية الموعودة!

رفعوا شعار: “من يحرّر يقرّر”، لكن من الواقع تبيّن أن أحدًا لم يحرّر، بل جرى ترتيب استلامٍ محسوب، أنتج منظومة جديدة بلباس مختلف. الذين تسلّموا زمام الأمور لم يستمدوا مشروعهم من الإرادة الشعبية، بل من توازنات مشبوهة، وحسابات مغلقة. ومنذ اللحظة الأولى، ظهر التوجّه للهيمنة على القرار، وإقصاء كلّ من لم يبارك النسخة الجديدة للسلطة.
ما تمّ لم يكن تأسيسًا لمرحلة تعددية، بل إعادة تدوير مركزة القرار. لم تبن مؤسسات عادلة، بل أُعيد إنتاج العقلية ذاتها التي كانت سائدة في النظام السابق. فالإقصاء طال كل من لم يُعلن الولاء المطلق لقيادة المرحلة، حتى وإن كان من أوائل الذين ضحّوا، وناضلوا من أجل التحرّر الفعلي.
صحيح أنّ من كانوا في قلب الحاشية القديمة يستحقّون تقديمهم للمحاكم.. كل بحسب ما ارتكبه من ضرر وانتهاكات، بل وممارسة الإقصاء بحقهم، نظراً لما اقترفوه بحقّ البلاد. غير أنّ ما جرى تجاوز ذلك، إذ أُقصيَ أيضاً كثيرون من أصحاب الكفاءة، ممن لا صلة لهم بالنظام البائد، فقط لأنهم لا ينتمون إلى الدائرة السياسية التي أعيد إنتاجها، في إطار ضيق ورؤى جد خاصة، أو لأنهم لم يصفّقوا بما يكفي لسلطة الأمر الواقع.

وما بدا أكثر فظاعة هو أنّ الاختيار اقتصر على لون واحد، من بيت واحد، من جهة واحدة. لم تُبنَ السلطة على قاعدة التعددية، بل على محورية الولاء، حتى وإن كان ذلك على حساب الكفاءة والنزاهة. وبهذا، تحوّلت مؤسسات الدولة إلى مجرد واجهات لسلطة متسلّطة، تتكرر فيها نفس أنماط الإقصاء والتهميش.

منظومة القرار الحالية لم تتجه نحو العدالة، بل نحو تثبيت الهيمنة بأساليب ناعمة. تمّ تجميل الاستفراد، وتزيين التفرد، باستخدام خطاب مدني، لكنه يحمل في جوهره كل ملامح النظام الذي سُمي “سابقًا”. لم يُفتح باب المشاركة، بل أُغلق بإحكام، مع تصنيف المعارضين بأنهم خصوم للثورة، أو عملاء، أو مجرد أصوات نشاز.

كل من لم يأتِ من العائلة السياسية الجديدة، أو لم يردّد ما يُراد له أن يردّده، بات منفيًّا، وإن بقي في مكانه. لا قيمة لتاريخه، ولا لصدقه، ولا لحلمه. المهمّ أن يكون صدى لسلطة تستمد شرعيتها من السيطرة، لا من الناس. هكذا، صارت الثورة أداة بيد فئة، لا مشروعًا جامعًا لكل من ضحّى من أجلها.

“من يستلم يقرر الشعار الأصل في إخراجه المفروض” من يحرر يقرر””، لا تعني هنا الشجاعة في تحمّل المسؤولية، بل تعني الهيمنة. لا تعني البناء، بل الإخضاع. كل قرار يُتخذ داخل دائرة ضيّقة، دون مساءلة، دون محاسبة، دون اعتراف بتعدد الآراء. المؤسسات تُستخدم غطاءً للقرار الفردي، والشرعية تُمنح لمن يصفّق، لا لمن يقترح ويعارض وينتقد.
لقد بدا المشهد وكأن السلطة لم تُنتزع من النظام السابق، بل استمرّت روحه في نفوس من ورثوه. من استلموا دفة القيادة منه، وإن رفعت التقديس عن الدكتاتور” المتأله” كي يتم الحكم باسم وكلاء الإله. الذهنية المغلقة عينها، الاحتقار للمخالف نفسه، الترويج لزعامة مصطنعة ذاتها ، يتمّ التسويق لها بكل الوسائل، حتى لو احترقت القرى والمدن وتبعثرت الكرامات.
الثورة لم تكن ضدّ شخص، بل ضدّ منطق الحكم كغنيمة، والسلطة كملكية. من قادوا المرحلة بعد النظام، لم يدركوا ذلك، بل تورطوا في تكرار النموذج، مع طلاء جديد. لم تكن لهم الجرأة على مواجهة الذات، ولا على بناء نموذج حكم عادل، شفاف، قائم على الشراكة، لا الإقصاء.
ومن هنا، فإن التغيير الحقيقي لا يكون بتبديل العناوين، بل بتفكيك البنية العميقة للاستبداد. حيث لا يُقاس التقدّم بعدد الاجتماعات والمؤتمرات، بل بمدى تمكين المواطن من حقّه في القرار. ولا تُقاس الوطنية بمقدار الولاء للسلطة، بل بمقدار الشفافية، وفتح الأبواب للنقاش، والاعتراف بالآخر.
ما لم تخرج السلطة من قوقعتها، وتُعدّل منطقها، وتفسح المجال أمام كل الطيف الوطني، فإنها ستتحوّل إلى نسخة جديدة من منظومة قديمة، وستخسر أخطر ما يمكن أن تخسره أي قيادة: ثقة الناس، وإن كان الحكم باسم سلطة السماء بعد أن كانت باسم سلطة الأرضين!
إن استمرار هذا النمط من الحكم سيعيد إنتاج المأساة. قد يختلف الاسم، واللباس، والعلم، ولكنّ المضمون سيظلّ نفسه: إقصاء، قهر، تزييف، وتكريس السلطة لفئة على حساب وطن.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

كفاح محمود   لطالما كانت الحرية، بمختلف تجلياتها، مطلبًا أساسيًا للشعوب، لكنّها في الوقت ذاته تظل مفهومًا إشكاليًا يحمل في طياته تحديات كبرى. ففي العصر الحديث، مع تطور وسائل الاتصال وانتشار الفضاء الرقمي، اكتسبت حرية التعبير زخمًا غير مسبوق، مما أعاد طرح التساؤلات حول مدى حدود هذه الحرية وضرورة تنظيمها لضمان عدم تحولها إلى فوضى. وفي العالم العربي، حيث تتفاوت…

إبراهيم محمود   بداية، أشكر باحثنا الكردي الدكتور محمود عباس، في تعليقه الشفاف والمتبصر” في مقاله ( عن حلقة إبراهيم محمود، حوار مهم يستحق المتابعة ” 11 نيسان 2025 “. موقع ولاتي مه، وفي نهاية المقال، رابط للحوار المتلفز)، على حواري مع كاتبنا الكردي جان دوست، على قناة ” شمس ” الكردية، باللغة العربية، في هولير، ومع الشكر هذا، أعتذر…

المحامي عبدالرحمن نجار   إن المؤتمر المزمع عقده في ١٨ نيسان في الجزيرة هو مؤتمر الأحزاب التي معظم قياداتها كانت تتهرب من ثوابت حق شعبنا الكوردي وفق القانون الدولي. وكانت برامجها دونية لاترقى إلى مصاف ومرتبة شعبنا الكوردي كشعب أصلي يعيش على أرضه التاريخية، وتحكم حقوقه القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، وتتجلى في حق تقرير المصير!. وحيث أن…

قهرمان مرعان آغا يحصل لغط كثير و تباين واضح ، مقصود أو جهل بإطلاق المصطلحات القانونية والسياسية، فيما يتعلق بالشعب الكوردي و حقوقه القومية و وطنه كوردستان ، تحديداً في كوردستان الغربية/ سوريا . هناك حقيقة جغرافية طبيعية و بشرية و حدود سياسية بأمر واقع في كوردستان ، الوطن المُجزء و المُقسَّم بين الدول الأربع ، تركيا ، ايران ،…