في سردية نوروز الكردية

ابراهيم محمود*

تعتمد هذه الشعوب وجماعاتها المختلفة إثنيات وعقائدَ وعوالم جغرافية، على نقطة إسناد، هي في مقام نخاعها الشوكي، في كيل المديح لها، ورفْعها بأكثر من معنى في مقام “التقديس”، أو ما يكون فطرياً لديها.

التاريخ صنيعٌ إنساني، وصانُعه بالمقابل. أن يكون صنيعَه، ذلك يُدخِله في حكْم البداهة. أما أن يكون صانَعه، فهنا “حطَّ الجمال”، إذ يبدأ الاختلاف والتنوع وحتى الخلاف في النظرة والعمل بزاوية كاملة، جهة الذين يُعرَف بهم. فتاريخ الشعوب والأمم يمثّل نشأتَها الأولى في سياقات اجتماعية، بيئية، دينية، وذهنية متباينة، حيث تختلف مجتمعاتها، وفي عجينة هذه البنية، من السهل معاينة “الخميرة” الميثولوجية والانتروبولوجية بالتوازي، والداخلة في إبرازها، إلى درجة أن هذا الذي يُقرَأ بوصفه تاريخاً، وللخيال إسهام لافت فيه، يعتبَر حقيقة التاريخ، تجاوباً مع واضعيه وممثليه.

بالطريقة هذه، تعتمد هذه الشعوب وجماعاتها المختلفة إثنيات وعقائدَ وعوالم جغرافية، على نقطة إسناد، هي في مقام نخاعها الشوكي، في كيل المديح لها، ورفْعها بأكثر من معنى في مقام “التقديس”، أو ما يكون فطرياً لديها.

هنا، يظهر الإنسان أولاً، وتاريخه يُلحَق به، بينما في الجاري كثيراً، يبدو التاريخ في مسطوره والمتردد باسمه، وكأنه الأول، وهو الذي يمثّل شاهد عيان على حقيقة ما جرى من وقائع وأحداث ( أليس ” سفر التكوين ” في سرديته الكونية المعتبرة، وفي منطقتنا الشاسعة الواسعة بمكوناتها الجغرافية والبشرية، تعزّز هذا التوجه، جهة النسب الأبوي، وبنيان العائلة، وما يخص ” آدم وحواء ” وميتاميثولوجيا الثالوث السلالي” سام وحام ويافث ” ومن النطفة عينها؟!).

من منطلق تصوري كثير التداول كهذا، يمكننا التعرف على الكرد، وهم بمقوماتهم البيئية، الإثنية، الاجتماعية، الدينية، والثقافية، ومن هذا “الحبل المشيمي” المشدود والمشدَّد عليه باسمه التاريخي والطبيعي اعتباراً “نوروز”، في المستطاع إنارة سرديتهم التكوينية، وما لذلك من وشيج قربى بالانقلاب الربيعي، وبدءاً من “21  آذار” وهو يوم تعيشه شعوب مختلفة، وفي المنطقة خصوصاً، سوى أنهم، لأسباب تاريخية مقرَّرة ونسج ثقافي وخيالي وعبر ذاكرة جماعية مرفوعة، أعطي ذلك الاعتبار الاستثنائي كتاريخ مفصلي، وما في ذلك من ندرة تخريج. والندرة علامة تاريخية وثقافية فارقة.

سردية” نوروز ” الكردية من الداخل
ثمة ما يشد الشعوب باختلاف أنواعها إلى ما هو جغرافي وتاريخي، حيث نتلمس أنساباً مشتركة في ما بينها عملياً، في الطبيعة: الجبل، النهر، البحر..إلخ، وفي التاريخ: وقائع قائمة، أو يجري توليفها، لإبراز هوية سردية لكل منها (مرسيا إلياد، يفيدنا كثيراً، حول هذه النقطة المكثفة في كتابه: أسطورة العود الأبدي !). وللكرد علامتان هما توأما جغرافيا طبيعية، وواقعة قرّرت كحدث تاريخي “أسطورة: كاوا حدّاد ”                                                                                                                      حيث يبرز ذلك النسب الكردي الأسطوري في ذاكرة الكرد، بشعلته، وما لذلك من ربط محكم بشرارات نارية خارجة من طرقاته على الحديد، وبلاغة التداخل، وعلى أعلى الجبل، وما للجبل من دلالة شموخ، وقرب مما هو سماوي، ورؤيته في هيبته عن بعد..  ليكون الربيع في مستهله المعلوم ” 21 ” أي تجليه أو اعتباره المتجاوب مع حدث تم التوقع عليه، بصورة ما، ولا مجال للطعن فيه، بالتوازي مع شعوب أو جماعات بشرية أخرى، تعرَف بنشأتها على منوال كهذا، وباختلاف الزمان والمكان طبعاً.
الخلاص من سفاح طاغية، يشكل عامل إبادة جماعية لهم “ازدهاك” أو أي صيغة مشابهة لذلك، يمكن تعميمه كمفهوم معبّر عن ظلم يجد جرثومته في نفس أي كان، في المنطقة، ممن أخضعوهم لحكْمهم، أو استبدوا بهم، وإلى الآن. إن كل ظالم، ومتنكر لحقهم في الوجود، كشعب، ومن منطلق هوية جامعة لهم، ازدهاك قائم، مهما اختلف لونه، صوته، لغته، فالسلوك واحد، لتكون مقاومته تعبيراً عن أن كاوا الحداد، وممثل منعطف التاريخ الكردية الموصول بالحرية والسيادة لم يمت، وهو بذلك يمارس حياته الرمزية في ذاكرتهم الجماعية، وبذلك تكون الشعلة المعروفة بشعلة “نوروز” أي: اليوم الجديد، شعلة حياة، والربيع خاصية خصبية في الطبيعة، وانطلاقة الناس إلى أحضانها، كما لو أنهم يستجيبون لنداء المتفتح فيها، بعناصرهم الأربعة: ماء، نار، تراب، وهواء. نوروز: اليوم الجديد، في تقويم يراد له أن يكون إشعاراً بتاريخ يجري تأكيده، وهو بتلك الحمولة النفسية والذهنية، الثقافية والحضارية، في خروج الكرد إلى الهواء الطلق. وهم يقترنون بتلك الشعلة النارية المرفوعة، والجبل الذي ينسّبون أنفسهم إليه، إنما يترجمون رغبة نفسية، وهي في كونهم باقين، ومتمسكين بهويتهم، ويعرَفون بها، كما هو الجبل نفسه، لهذا يتردد “ليس للكرد سوى الجبال” إلحاقاً بماض أسطوري.
شعلة “نوروز” ترتبط بيد قوية، بساعد مفتول، يرفعها، وعين تحرسها، وروح تغذّيها ( لا أكثر من الأشعار الكردية التي تعظّم هذا المشهد وتبعاته النفسية والثقافية في الذاكرة الكردية وسردية هويتها في الوجود !).
بالنسبة لأي شعب، يحرَم من العيش مستقلاً، ويُسَد المستقبل في وجهه، يستدعي ماضياً، باحثاً عن أدلة تؤكد حقيقته، وجدارته في الحياة، وهذا الرصيد الثقافي- التاريخي، والجغرافي، يشرعن لاستمراريته في الحياة، وتوجهه إلى الأمام.
ويؤكد الكرد في سرديتهم هذه، أنهم كغيرهم، وجدوا في منطقة سخية بنارها ونورها، وأملهم أن تكون النار علامة دفء للجميع في عيشهم المشترك، والنور، علامة تنوير روحية في ثقافتهم المشتركة، وهنا تكون المدينة الفاضلة للجميع!

 

*باحث ومفكر كردي من سوريا، يعمل الآن باحثاً في مركز بيشكجي للدراسات الإنسانية- جامعة دهوك- إقليم كردستان العراق، منذ عام 2013).

=================

المصدر: جريدة (النهار)

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

شادي حاجي في السنوات الأخيرة، بات من الصعب تجاهل التحوّل المتسارع في نبرة الخطاب العام حول العالم . فالعنصرية والكراهية والتحريض عليهما لم تعودا مجرّد ظواهر هامشية تتسلل من أطراف المجتمع، بل بدأت تتحول، في أكثر الدول ديمقراطية ولم يعد ينحصر في دول الشرق الأوسط ( سوريا . لبنان – العراق – تركيا – ايران وو .. نموذجاً ) وحدها…

ياسر بادلي ليس اختيارُ الرئيس العراقيّ السابق، برهم صالح، مفوّضاً سامياً لشؤون اللاجئين حدثاً عابراً يمرّ على أطراف الأخبار؛ بل هو لحظةٌ ينهضُ فيها تاريخُ شعبٍ كامل ليشهد أن الأمم التي صُنعت من الألم تستطيع أن تكتب للإنسانيّة فصلاً جديداً من الرجاء. فالمسألة ليست منصباً جديداً فحسب… إنه اعترافٌ عالميّ بأنّ الكورد، الذين حملوا قروناً من الاضطهاد والتهجير، ما زالوا…

المحامي عبدالرحمن محمد   تتواصل فصول المسرحية التركية وسياساتها القذرة في الانكار والنفي للوجود التاريخي للشعب الكوردي على ارضه كوردستان، ومحاولاتها المستمرة لالغاء ومحو كلمتي كورد وكوردستان بوصفهما عنوانا للهوية القومية الكوردية والوطنية الكوردستانية من القاموس السياسي والحقوقي والجغرافي الدولي، سواء على جغرافيا كوردستان او على مستوى العالم. تارة يتم ذلك بحجة وذريعة الدين (الاسلام)، وتارة اخرى باسم الاندماج والاخوة،…

  إبراهيم اليوسف وصلتني صباح اليوم رسالة من شاعرة سورية قالت فيها إنها طالما رأتني وطنياً لكنها تجدني أخرج عن ذلك، أحياناً. رددت عليها: صديقتي، وما الذي بدر مني بما يجعلك ترين وطنيتي منقوصة؟ قالت: أنت من أوائل الناس الذين وقفوا ضد ظلم نظام البعث والأسد. قلت لها: ألا ترينني الآن أقف أيضاً ضد ظلم السلطة المفروضة- إقليمياً ودولياً لا…