إبراهيم اليوسف
قرية البساطة والجمال واللقاء المؤجل
حين يذكر اسم قرية” عين الكروم”. جارة العاصي والجسر ما بين: الغاب واللاذقية. بين السهل والجبل والبحر، والتي عرفناها أكثر من خلال قصائد صقر عليشي المشرفة على السهل، لا يحضر في ذهني فقط موقعها الجغرافي في أحضان جبال الغاب، بل تطفو أمامي ذكرياتٌ لم تكتمل، ووعودٌ بقيت معلّقة في هواء الأزمنة المتبدّلة. عين الكروم ليست مجرد قرية، بل هي عنوانٌ لمرحلة من حياتي، ارتبطت باسم صديقي الشاعر صقر عليشي، ذاك الذي كان بيتي في قامشلي عنواناً له، وبيته في دمشق عنواناً لي، يلحّ عليّ ألا أذهب إلى الفندق، فأجد نفسي بين دفء الأصدقاء وحميمية الرفقة، وقد كتبت نصاً في العام 1984 بعنوان غرفة صقر نشرفي مجموعتي” هكذا أكتب القصيدة”.
كان لصقر عليشي فضلٌ كبيرٌ في حصولي على موافقة السفر لمرة واحدة. فضل في إنقاذ حياتي وأسرتي، في آن، عبر الدكتور نجاح العطار، بعد أن مُنعتُ من مغادرة سوريا بقرارٍ من الأمن القومي. أجل: الأمن القومي ذاته، بالإضافة إلى جهات أخرى. لم يكن ذلك المنع مجرد قيدٍ إداري، بل سبب خسارتي لوظيفة تعليمية مريحة في الخليج، ضاعت مني كما ضاعت أشياء أخرى تحت وطأة المعوقات السياسية والمادية، وإن كنت سأعمل في الصحافة بعدها، في أحد أكبر وأهم الصحف الخليجية.
في أوائل الثمانينات، دعاني صقر إلى قريته، مع الصديق الروائي عبدالسلام نعمان، غير أنني لم أتمكن من السفر بسبب عدم توافر أجرة الطريق لدي، أنا الصحفي والمدرس الذي- بالكاد- يكفيه مرتبه للحد الأدنى من الحياة. لم أصرّح حينها عن السبب، لكنني بقيت أمني النفس بزيارة القرية، غير أن الأقدار سبقتني، فتوفي والداه واحداً بعد الآخر، قبل أن أفي بوعدي.
في دمشق، ظل صقر عليشي صديقاً حقيقياً، يُصرّ على طباعة كتبي دون تردد، كما فعل مع ديواني “كتاب الإدكارات”، الذي طبعه بلا موافقة رسمية سنة 2005، من دون أن يدون اسم دار نشره عليه، مكتفياً بالإشارة إلى أنه طُبع في بيروت، ليفلت من مقص الرقابة التي لم تتقبل الرموز الكردية الواردة فيه. حتى لوحة الغلاف والصور الداخلية، التي رسمتها زوجته الروسية آليسا زيلينوفا، كانت امتداداً لروحه الكريمة، التي كانت تعكس صدق علاقته بالأصدقاء وأهمية الأدب عنده.
أما كرم، ولدي، فقد طبع له صقر ديواناً عام 2002، بعد أن جمع الشاعر عماد حسن نصوصه، لكن كرم، في لحظة تمردٍ فتي، أحرق النسخة التي وصلته، وقال: “بكير علي”. ومنذ ذلك الحين، لم يطبع كتاباً، بل ضاعت منه رواية كتبها قبل أكثر من عشرين عاماً، ربما في انتظار زمنها المناسب، بعد أن اعتمد على الشاعر أحمد حسيني- شفاه الله- ليطبعها عبر دار كردية في تركيا- كما أوعده في العام 2008- ولم يتم ذلك، ولم يعد متحمساً لطباعة أي مخطوط له!
صقر، هذا” العلوي” النبيل، شأن ملايين بسطاء العلويين، ولا يشمل كلامي هذا شبيحة العلويين، المجرمين، كما كل شبيحة قد يتم- الآن- تعميدهم وتطهيرهم بالمطهر الطائفي السني، لا يختلف عن أصدقاء آخرين وقفوا موقفاً عظيماً في لحظات عصيبة. محمد غانم، الذي دافع عن الكرد الذين توثقت علاقته بهم عن طريقي، ودفع ثمن مواقفه بدخوله السجن، وكنت إلى جانب أسرته في تلك الأيام الصعبة، أتشارك معهم الخوف والقلق، وأوصل إليهم” محبة” الكرد من داخل وخارج الوطن. ودانيال سعود، الذي ظل منذ اندلاع الحرب ينسق بيانات ضد انتهاكات آلة النظام، ولم يقطع علاقته بالحقوقيين الكرد، رغم الخطر الذي كان يهدد حياته.
أثناء انتفاضة 2004، حين هدد ماهر الأسد بمحو إحدى المدن الكردية واستهدف شبيحة النظام الكرد ، ومن بينهم شبيحة سنة بارزون: مراتب و عناصر مجرمة، كما حال أدواته من المجرمين من بين العلويين، وكان الكرد واعين لذلك، دعا صقر عليشي إلى ندوة وسهرة في صالة دار الينابيع بدمشق. حضر اللقاء إبراهيم محمود، ومحمد الجزاع، وعبدالإله الباشا، وأنا، والتقينا بكتّاب وصحفيين وإعلاميين وأكاديميين علويين، حيث شرحنا لهم ما قام به النظام. جاء اللقاء ضمن تكليفنا الأربعة من قبل الحركة الكردية في سوريا بإجراء لقاءات مع المثقفين وشرح الوضع لهم. تضامنوا معنا وقالوا: “ما كنا نعرف الظلم الواقع عليكم”، ومنهم من قال: “اليوم أعرف الكرد”. آنذاك، التقينا بالكثيرين، بينهم علي عقلة عرسان وعشرات المتابعين.
عين الكروم، كما علمت، لم تسلم من التعفيش، كما لم تسلم قرى ومدنٌ كثيرة من ويلات الحرب والنهب والتغيير القسري. واليوم، وأنا أريد الاطمئنان على صقر، وعن مكانه في هذا الشتات الذي ابتلع جميع أهلنا العلويين، أجد نفسي مشدوداً إلى تلك القرية الجبلية، التي قد تكون أحد عناويني، إذا ما كتب لي أن أعود إلى وطنٍ يستعيد حريته، ويسترد كرامته.
8 آذار 2025
……..
ملاحظة:
ثقافتي البيتية والكردية والسورية وراء شعوري بحرج كبير كلما أكتب متردداً، مصطلحي: سنة وعلويين- مسلمين ومسيحيين، وما تركيزي على الكرد إلا لمواجهة أعداء الإنسانية العنصريين.