خوشناف سليمان
في قراءتي لمقال الأستاذ ميخائيل عوض الموسوم بـ ( صاروخ يمني يكشف الأوهام الأكاذيب )
لا يمكنني تجاهل النبرة التي لا تزال مشبعة بثقافة المعسكر الاشتراكي القديم و تحديدًا تلك المدرسة التي خلطت الشعارات الحماسية بإهمال الواقع الموضوعي وتحوّلات العالم البنيوية. المقال رغم ما فيه من تعبير عن الغضب النبيل يُعيد إنتاج مفردات تجاوزها الزمن بل و يستحضر نموذجًا للمقاومة لم يعد يصلح حتى للمقارنة التاريخية.
نحن اليوم في عصر حروب غير تقليدية. الحروب لم تعد تُخاض بالبندقية والخندق بل بالشبكات الإعلامية بحروب الاقتصاد والذكاء الاصطناعي و التحكم بالمعلومة. أما الحديث عن صاروخ واحد يخترق ( منظومات الدفاع الإمبريالية ) فهو فعلٌ رمزي في أحسن الأحوال لا يبني مشروع تحرر و لا يؤسس لدولة و لا ينقذ شعبًا من المجاعة أو الطغيان.
لقد آن الأوان لإعادة النظر في مفاهيم المقاومة ذاتها. هل المقاومة اليوم هي مجرد إطلاق صاروخ؟ وهل الثورة تساوي إشهار السلاح؟ ومتى كانت الحروب الطائفية المتستّرة بالمقاومة و التي تقودها فصائل مسلّحة متشددة لا تملك سوى فتاوى القتل والسبي شكلًا من أشكال النضال؟ أيّ عقل يقبل أن نصفّق لهؤلاء وندّعي في الوقت نفسه أننا ديمقراطيون وتقدميون؟ هل يُعقل أن نبني الحريّة بيد قاتل جاهل يرتكب الإبادة باسم الله؟
من المحزن أن نرى بعض / اليساريين / الذين يفترض أنهم حماة التنوير، قد أصبحوا جنودًا ضمن مشروع الاستبداد نفسه يصفقون لحكومة البعث تحت مسمى .. مقاومة .. بينما كان الشعب يُقمع ويُجوَّع باسم / الخطر على أمن الدولة / في هذا النموذج كل مواطن مشروع متّهم و كل من يسأل مصيره يُدان بالخيانة بينما الفساد مباحٌ للمقرّبين، والمجد لمن يحمل البندقية لا لمن يحمل كتابًا.
التاريخ نفسه يصفع هذا النموذج: الاتحاد السوفيتي لم يسقط على يد الغرب بل انهار من الداخل بسبب غياب الديمقراطية و التعويل على القوة بدل العدالة. غورباتشوف في مشروعه / البروسترويكا / حاول أن يؤسّس لاقتصاد حديث و انفتاح سياسي و ديمقراطية. لكن المفارقة أن غياب الضوابط الديمقراطية تسبب في فوضى قاتلة استولى فيها مافيويون على السلطة و بيعت المصانع و السلاح كخردة.
ألا يدفعنا هذا إلى أن نُعيد التفكير لا في أدوات المقاومة فحسب بل في وظيفتها الأخلاقية والسياسية؟ المقاومة التي لا تبني بل تنتج مستبدًا جديدًا ليست مقاومة بل نكبة مؤجلة. والأوطان لا تحرر بالبندقية فقط بل تُبنى بالمساواة بالحكم الرشيد باحترام الإنسان.
٧- الفيدرالية وحقوق المواطنة: كسر مركزية الاستبداد
ضمن هذا السياق لا بد أن نطرح شكل الدولة بوصفه مفتاحًا لفهم الاستبداد أو تجاوزه. إن كثيرًا من الأنظمة المركزية في منطقتنا وعلى رأسها البعث أنتجت شروط الطغيان البنيوي: سلطة تُدير كل شيء من العاصمة تُقصي الأطراف و تُعيد إنتاج ثقافة واحدة وقومية واحدة وولاء واحد و تضع المواطن في مواجهة دائمة مع آلة الدولة.
أما النظام الفيدرالي أو اللامركزي فهو ضمان لحماية حقوق المواطنين كمكونات متساوية في الحقوق والكرامة. ليس الفيدرالية تقسيما للوطن بل هو وحدة توافقية حقيقية، تمنح الناس إدارة محلية ديمقراطية وتحاصر الاستبداد من جذوره. إن الحديث عن المقاومة دون ربطها ببنية الدولة العادلة هو تكرار مأساوي لأخطاء الماضي.
جغرافية الممكن لا متاهة الشعارات
أي مقاومة لا تعيد تعريف ذاتها في ظل شروط القرن الواحد والعشرين ستنتهي إلى كاريكاتور دموي. لا جدوى من صاروخ يضرب مطارا بينما يُذبح الناس في الشوارع باسم الطوائف وتُباد المدن و تحول الديمقراطية إلى فتنة والمواطن إلى ضحية بين الاستبداد والتشدد.
الدولة العادلة هي التي تُقاوم
تقاوم الفساد تقاوم الإقصاء تقاوم الطغيان تقاوم استغلال الدين وتبني الإنسان الوطن ليس في شعارات الممانعة ولا في جبهات طائفية بل في جغرافية الممكن: حيث تُبنى مدارس بدل المعسكرات حيث يُنتج الإعلام العقل لا التجييش حيث يُحترم الفرد لا يُختزل إلى رقم في معركة لا يفهمها.
كفانا أوهامًا. ولنبدأ في بناء الحقيقة.