حين تتكلم الجبال ويسكت العالم

بوتان زيباري

يا من تكتبون التاريخ بحبر الآخرين، مهلاً؛ فإن على حواف هذا الشرق من لم يكتب اسمه بعد، ومن لم يُسأل عن رأيه بعد، ومن صاغ فصول المأساة بجسده، لكنه غاب عن مقدمة النص.

في هذا الركن المنسيّ من الجغرافيا، حيث تُولد البنادق من رحم العدل الموءود، وتُسقى النوايا بالدم لا بالماء، يقف الكورد على مفترقٍ، لا بين حربٍ وسلام، بل بين صمتٍ ثقيل وهاوية مفتوحة. وإنّ للصمت رائحةً تُشبه رائحة الجنازات المؤجلة، وإن للهدوء شكلاً يُشبه كمينًا سياسياً بلباس قانوني.

منذ أن خفت هدير الرصاص، لم تهدأ القلوب، بل زاد قلقها. فها هي الجبال تحرس بنادقَ لا تطلق، وها هي الطائرات المسيّرة تحوم، لا لِتُعلن حربًا، بل لِتُملي شروطَ نهايةٍ بلا منتصر. ولكن أيّ سلامٍ هذا الذي يُفرض من علٍ، وتحت مرأى كاميرات المراقبة، وتحت سمع الآذان المُسيّسة؟

إنَّ من يطلب من الشعب الكوردي أن يُسلِّم بندقيته، دون أن تُعاد إليه مفاتيح حقّه، يُشبه من يطالب السجين بتقبيل قيده. فالسلاحُ، وإن كان يومًا وسيلةً، لم يكن يومًا غاية. ولكن حين يُغلق باب السياسة، ولا تُفتح نوافذ العدالة، يصير الحديدُ لغةً يفهمها الصخر، ولا يفهمها البرلمان.

وما قنديل إلّا مرآةٌ لهذا التناقض: لا حربٌ تشتعل، ولا سلامٌ يُبرم. لا إعلان هجوم، ولا إعلان انسحاب. فقط الزمن يتآكل، والعزائم تُرهَق، والميدان يفرغ من النوايا الواضحة. فهل هذا سكونُ الحكمة، أم سكينة المقبرة؟

تسألون عن غياب العمليات؟ عن توقف الاشتباك؟ عن نُدرة التصريحات؟ كلُّ ذلك لا يُعني السلم، بل قد يكون تمهيدًا لصفقةٍ تلوحُ في الأفق. ولكن أيّ صفقةٍ تلك التي لا يعرف طرفها الأول ما يُكتب باسمه؟ وأيُّ طاولةٍ تلك التي يُمنع الكورد من الجلوس إليها، ثم يُطلب منهم التوقيع على ما لم يقرأوا؟

وها هي إيران، التي كانت، ذات زمنٍ، حَكَماً يتلاعب بالخيوط، ويهمس في آذان المقاومة، تجد نفسها اليوم تتأرجح بين هزائمها الداخلية وتآكل نفوذها الإقليمي. لم تعد قادرةً على التخريب، لكنها لم تفقد شهيتها له بعد. هي حاضرةٌ كظلّ، وغائبةٌ كضوءٍ في منتصف العاصفة.

ولِمن نسي، فإن التاريخ لم ينسَ ما جرى في هورامان، ولا في هَكورك، ولا في دربندخان. ولم تغب عن الذاكرة تلك اللحظات التي وقف فيها الجنرال سليماني يُساوِم الكورد على الصمود، ويُغريهم بالسلاح إن هم تخلّوا عن الحلم. كان يعرف أن الكورد لا يُشترَون، لكنه حاول، كما حاول غيره قبله وبعده، أن يلتفَّ على الحقيقة الأهم: أن الحقّ لا يُفاوض، بل يُنتزع.

إنّ الحديث عن نزع السلاح دون الحديث عن نزع الظلم، خداعٌ بلُغةٍ قانونية. وإنّ المفاوضات التي لا تبدأ بالإفراج عن الأسرى، والاعتراف بالهوية، وإعادة اللغة إلى المدارس، ليست مفاوضات، بل مناورة. وهل في المناورات خلاص؟

فيا أبناء هذا الشرق المكسور، ويا من ظنّنتم أن قنديل صمتت، اعلموا أنّ الجبل لا يصمت، بل يتأمل. لا يتراجع، بل يُعيد ترتيب أوراقه. لا يُسقط بندقيته، بل يُخفيها حين تنعدم الجدوى من الظهور.

ويا تركيا، إن أردتِ سلاماً حقيقياً، فابدئي من الذاكرة، لا من السلاح. اعترفي بأن لهذا الشعب تاريخًا لم يُكتَب بعد، وأرضًا لم تُستعاد، وهويةً لم تُعترف، ومقاومةً لم تُفهَم. أما أن تظنّي أن طائراتك المسيّرة تستطيع أن تصنع مستقبلًا على أنقاض الأمل، فذاك وهمٌ لا يصمد أمام رياح التاريخ.

إننا لا نُراهن على الحروب، بل نُراهن على العقل. لا نُقدّس البنادق، بل نُقدّس الكرامة. ولكن الكرامة لا تُحمى بالبيانات، بل بالمواقف. ومن كان ينتظر من الكورد أن يُلقوا السلاح دون أن يُؤمِّنوا المستقبل، فهو لم يفهم بعد ما معنى أن تولد كوردياً في هذا العالم المعوجّ.

فلنقلها الآن بوضوح: لا سلام دون كرامة، لا دولة دون شراكة، لا ذاكرة دون اعتراف، ولا نهاية لهذا النزاع دون أن تفتح تركيا قلبها قبل حدودها، وأن تقرأ التاريخ قبل أن تُعدّل القوانين.

وفي الختام، لِيعلَم من في الجبل، ومن في العاصمة، ومن في الشتات، أن الكورد، وإن تعبوا، لم ينسوا. وإن صمتوا، فصمتهم ليس نهاية، بل بداية لحوارٍ آخر، بصيغةٍ أعدل، وحبرٍ أنقى، وصوتٍ لا يُكمَّم.

السويد

10.05.2025

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

شادي حاجي في السنوات الأخيرة، بات من الصعب تجاهل التحوّل المتسارع في نبرة الخطاب العام حول العالم . فالعنصرية والكراهية والتحريض عليهما لم تعودا مجرّد ظواهر هامشية تتسلل من أطراف المجتمع، بل بدأت تتحول، في أكثر الدول ديمقراطية ولم يعد ينحصر في دول الشرق الأوسط ( سوريا . لبنان – العراق – تركيا – ايران وو .. نموذجاً ) وحدها…

ياسر بادلي ليس اختيارُ الرئيس العراقيّ السابق، برهم صالح، مفوّضاً سامياً لشؤون اللاجئين حدثاً عابراً يمرّ على أطراف الأخبار؛ بل هو لحظةٌ ينهضُ فيها تاريخُ شعبٍ كامل ليشهد أن الأمم التي صُنعت من الألم تستطيع أن تكتب للإنسانيّة فصلاً جديداً من الرجاء. فالمسألة ليست منصباً جديداً فحسب… إنه اعترافٌ عالميّ بأنّ الكورد، الذين حملوا قروناً من الاضطهاد والتهجير، ما زالوا…

المحامي عبدالرحمن محمد   تتواصل فصول المسرحية التركية وسياساتها القذرة في الانكار والنفي للوجود التاريخي للشعب الكوردي على ارضه كوردستان، ومحاولاتها المستمرة لالغاء ومحو كلمتي كورد وكوردستان بوصفهما عنوانا للهوية القومية الكوردية والوطنية الكوردستانية من القاموس السياسي والحقوقي والجغرافي الدولي، سواء على جغرافيا كوردستان او على مستوى العالم. تارة يتم ذلك بحجة وذريعة الدين (الاسلام)، وتارة اخرى باسم الاندماج والاخوة،…

  إبراهيم اليوسف وصلتني صباح اليوم رسالة من شاعرة سورية قالت فيها إنها طالما رأتني وطنياً لكنها تجدني أخرج عن ذلك، أحياناً. رددت عليها: صديقتي، وما الذي بدر مني بما يجعلك ترين وطنيتي منقوصة؟ قالت: أنت من أوائل الناس الذين وقفوا ضد ظلم نظام البعث والأسد. قلت لها: ألا ترينني الآن أقف أيضاً ضد ظلم السلطة المفروضة- إقليمياً ودولياً لا…