عبدالرحمن كلو
بعد سقوط النظام السوري، تغيَّرت معادلة توازن القوى في سوريا بشكل كبير وملحوظ. فغياب نظام الأسد وإيران معًا أحدث بيئة سياسية مختلفة تمامًا عما كانت عليه في السابق. ويبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل رفعتا الغطاء بشكل كامل عن السلوك الإيراني في كل المنطقة، مُنهيةً لعبة القط والفأر التي أدارتها إدارة أوباما-بايدن مع إيران، والهلال الشيعي تقطعت أوصاله في عدة مواقع، إذ لم يعد له وجود سوى فعل بعض المسيرات والصواريخ الحوثية التي تحاول إثبات حضورها بين يوم وآخر.
أما حزب العمال الكوردستاني (PKK)، الذي كان إحدى أدوات المشروع الإيراني وجزءًا من آلية عمل النظام السابق، فقد تعرَّض هو الآخر لانتكاسة قوية هزَّت أركانه من كل الاتجاهات، فهو اليوم يحاول تبديل جلده ليتماشى مع مستجدات الحالة السورية، متناسيًا دوره بالأمس القريب كجزء من آلة قمع النظام ضد الشعب الكوردي. فأحداث السنوات القليلة الماضية ما زالت حاضرة في ذاكرة الجميع، حين استلم الـ PKK ملف كورد سوريا، مُكرِّسًا وجوده ضمن منظومة القمع السابقة.
واليوم، عندما يتحدث ال (PKK) عن حماية الكورد من تنظيم داعش، أو يروِّج لما يسميه “ثورته” ضد النظام، فإنه يحاول عبثًا محو الذاكرة القريبة عندما كان يتباهى بالأمس بأنه السبب الأساس في بقاء النظام وعدم سقوطه، وسرديته الجديدة وإعادة صياغتة في رواية الأحداث بصورة مغايرة للواقع كما يحلو له لا يغير من الحقيقة بشيء، وفلسفة التزييف والتدليس والبروباغاندا الشعبوية لا يمكن أن تنطلي على أحد، فالمسافة الزمنية بين الأمس واليوم قصيرة للغاية، والذاكرة لا تزال شاهدة على الدراما المأساوية التي ارتُكبت في ظل سلطة ميليشيات هذا الحزب، وهي سلسلة حلقات درامية مستمرة حتى اللحظة. فضحايا “ثورته” ما زالوا مشتتين في أصقاع الأرض، يُعانون في مخيمات اللجوء، وقلوبهم معلقة بما تبقى من الوطن، في انتظار لحظة العودة التي يحجبها استمرار هيمنة سلطة الأمر الواقع التي فرضها النظام الديكتاتوري الدموي على المناطق الكوردية، والتي لا تزال قائمة رغم سقوطه، هذا إضافة إلى أحياء الداخل الذين يُعانون الموت البطيء. أولئك الذين يتجرَّعون المعاناة في كل لحظة بحثًا عن أبسط متطلبات الحياة؛ من رغيف خبز، أو جرة غاز، أو ماء، أو كهرباء. فالدمار الذي لحق بالبنية التحتية كان نتيجة تنسيق غير مُعلن مع تركيا، ناهيك عن حرق المحاصيل الزراعية عن سابق إصرار وترصُّد لتجويع الناس وإخضاعهم، وفي سنوات لاحقة، وعند الحاجة وتوفر سوق البيع، قامت وتقوم سلطة الأمر الواقع بسلب محصول القمح من المزارعين والفلاحين دون أي مقابل، مما عمَّق من الأزمة الإنسانية، ليبقى الصراع من أجل البقاء فقط.
هذا الحزب لم يبدأ عسكرة المجتمع على قاعدة التصدي للتنظيمات الإسلامية المتطرفة أو لحماية الكورد، بل إن إرهابه سبق ظهور أي تنظيم متطرف. فمنذ اللحظة الأولى، كانت عسكرة المجتمع الكوردي وممارسات الترهيب ضده جزءًا من مشروعه الذي كُلِّف به لتحييد إرادة الشعب الكوردي من الثورة ضد النظام، وكان الهدف من ذلك هو فصل مسارات الصراع في سوريا، لتسهيل معالجة كل مسار وفق اعتبارات أمنية تكتيكية على طريقة “فرق تسد”، ليتفرغ النظام لمعالجة المعارضة العربية السنية في مسار خاص منفصل عن مسارات الملف الكوردي والطوائف الدرزية والمسيحية، وكل الميليشيات المسلحة دخلت الساحة السورية كأدوات عمل أجندات “دول” قبل التدخلات الرسمية الإقليمية والدولية؛ أي أن دخول الميليشيات وظهورها سبق التدخلات الرسمية لتركيا وإيران وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية، كما أن ظهور أذرع ميليشيات الـ PKK جاء متزامنًا مع حالة الفوضى التي عمت الساحة السورية، وكان تزامنًا ممنهجًا مدروسًا، جاء نتيجة مخطط محكم أعدته جهة واحدة أو مرجعية موحَّدة اتفقت على تسليم المناطق الكوردية لحزب العمال الكوردستاني بموجب عقود عمل مأجورة، وفكرة العمل المشترك بهذا الاتجاه وتكليف الـ PKK تعود بجذورها إلى مرحلة سقوط النظام العراقي عام 2003، حيث اتفقت الدول الأربعة التي تتقاسم كوردستان على التنسيق المشترك للحد من تداعيات “الخطر الكوردي” من دولة لأخرى من هذه الدول.
والممارسات الإرهابية للـ PKK في المناطق الكوردية ظهرت قبل “ثورتهم” التموزية؛ ففي شتاء عام 2012 بدأوا بالتنكيل والقتل والترهيب والخطف، والأرقام والتواريخ تدحض كل مقولاتهم وتخريفات شعاراتهم المضللة.
فعمليات الاغتيال والملاحقات بدأت من اغتيال الشهيد مشعل تمو بعد أشهر قليلة من الثورة السورية في عام 2011 بتدبير من المدعو شيرگۆ العميل المزدوج لدى النظام وحزب العمال، ومن ثم اغتيال الشهيد الدكتور شيرزاد علمداري في 9 شباط من عام 2012، وبعدها اغتيال الشهيد نصرالدين برهيك في 22 شباط من نفس العام، وحينها تم التخلص من السيارة الخاصة بال PKK وتم ترحيل القاتل إلى دمشق، وبعد ذلك اغتيال الشهيد جوان قطنة في ليلة 25/3/2012، تمَّ اختطافه من قبل أربعة عناصر تابعين للـ PKK بالتنسيق مع مفرزة الأمن العسكري في الدرباسية، وقبل عملية الاغتيال طُلب منه تقبيل صورة أوجلان على الأرض والسجود له، لكنه رفض الركوع وفضَّل الموت واقفًا، ومن ثم استشهاد رمضان أبو سامان على يد دورية ترهيبية للحزب في ريف كركي لكي بتاريخ 29/05/2022، ومجزرة عائلة الشيخ حنان في تموز 2012 وبعدها اغتيال المناضل محمود والي أبو جاندي بتاريخ 20/09/2022. وإختطاف القيادي الكوردي بهزاد دورسن في أكتوبر 2012 كل تلك الأحداث الترهيبية سبقت ظهورًا فعليًّا لتنظيم داعش الإرهابي، ناهيك عن سلسلة العمليات التفجيرية في المناطق السكنية المدنية للترويع والارهاب.
أما قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، وبعدها تأسيس “مسد” (مجلس سوريا الديمقراطي) الذي تأسس في خريف عام 2015، أي بعد أن أنجزت منظومة الـ PKK مهامها الوظيفية في مرحلة الترويع والترهيب لإخضاع وتطويع الشارع الكردي بشكل يمكِّنها من العمل في البيئة الكوردية كساحة عمل مفتوحة عسكريًّا وأمنيًّا واقتصاديًّا، ومع احتلال “داعش” للرقة ومساحات كبيرة من سوريا، دخلت الدول الإقليمية والولايات المتحدة وروسيا على خط الأزمة السورية بشكل رسمي -كدول- في الصراع، والولايات المتحدة دخلت من خلال تحالف دولي و”عملية العزم الصلب” (Operation Inherent Resolve)، بالتنسيق مع حلفائها الأوروبيين والعرب وإقليم كردستان، لمحاربة “داعش” والإرهاب، ولهذا عمدت الولايات المتحدة الأمريكية إلى تنظيم قوة عسكرية محلية في شرقي الفرات، بدعمٍ من التحالف الدولي واعتمادًا على الموارد البشرية والاقتصادية للمنطقة، في إطار استراتيجية ثنائية المحاور:
– المحور الأول: مُواجهة الإرهاب عبر تصفية تنظيم “داعش” كهدفٍ استراتيجي، مع تأكيد واشنطن على تبنيها قيادة الحرب العالمية ضد الإرهاب في سوريا والعراق، باستخدام كافة الأدوات العسكرية والدبلوماسية المتاحة، حتى لو تطلّب الأمر تعاونًا تكتيكيًّا مع أطرافٍ مُتناقضة (كقوات النظام السوري والحشد الشعبي العراقي)، رغم إدراكها أن طهران تُشكّل العُمود الفقري للدعم اللوجستي والعسكري لهذه التنظيمات.
– المحور الثاني: احتواء النفوذ الإيراني المتمدّد عبر إفشال مشروع “الهلال الشيعي”، من خلال تحجيم قدرات الميليشيات التابعة لها، في مُحاولةٍ لخلق توازن قوى إقليمي يُحاصر طهران ويُعيد ترسيم خريطة النفوذ في الشرق الأوسط.
هذه الخطوة -وإن بدت مُتناقضةً في تحالفاتها الظرفية- إلّا أنها تعكس واقعية السياسة الأمريكية القائمة على توظيف التناقضات الإقليمية لخدمة أهدافها، حتى لو تطلّب الأمر التعامل مع خصومها في معارك مُحددة، في مُحاولةٍ منه تحويل التنافس الإقليمي إلى أداة لتحقيق مكاسب جيوسياسية طويلة الأمد.
والآن و بسقوط نظام الأسد عن مركز الفعل السياسي والعسكري في سوريا، تشهد الخريطة الجيوسياسية تحوّلات عميقة أعادت ترتيب أولويات الفاعلين الإقليميين والدوليين. فَضْلاً عن تحييد “حزب الله” في لبنان، وتراجع نفوذ “حماس”، وغياب إيران وميليشياتها عن المشهد السوري، دخل الواقع السوري مرحلةً جديدةً تُعلن نهاية عصر الهيمنة الميليشياتية التي أثبتت فشلها في الانتقال من منطق الحرب إلى مرحلة بناء الدولة.
في هذا السياق، تبدو الولايات المتحدة وبالتنسيق مع حلفائها العرب والأوروبيين وإسرائيل مُضطرةً إلى إعادة هندسة المهام الوظيفية لـ”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) بما يتماشى مع مستجدات المُعادلة السورية، خاصةً مع تهاوي مستوى الخطاب السياسي التقليدي لحزب العمال الكردستاني (PKK) الذي بات عاجزاً عن مواكبة التحوّلات السورية. فتناقضات الخطاب بين مُطالباتٍ بمنح الجنسية لعناصره تارةً، وإنكار وجوده سورياً تارةً أخرى، تُكشف أزمته الوجودية، وتُجسّد ارتباكاً استراتيجيّاً تعكسه تصريحات قيادة “KCK” المُلتبسة، التي تحذّر من “مشروع إسرائيلي” يهدد أمن تركيا، بينما تُشعل اشتباكاتٍ جانبيةً مع القوات العراقية، وتحافظ على خطابٍ عدائيٍ تجاه إقليم كوردستان.
هذا التخبّط ليس سوى محاولةٍ يائسةٍ للتمسك بـ”المُستقنع السوري” كآخر معقلٍ للحزب، سعياً وراء شرعيةٍ سياسيةٍ مُستحيلةٍ في ظلّ مؤشراتٍ تُجمع على استحالة اندماجه في مُستقبل سوريا. ورغم احتمال قيام واشنطن بإعادة تدويره في مهامَ جديدةٍ وتشغيله في ساحاتٍ أخرى، إلا أن الفصل الجراحي بين ال PKK وكورد سوريا رغم أنه يبدو مسألةً وقتٍ فقط، لكنه سيكون عمليةً معقدةً ودمويةً، تُعيد إنتاج جراحات الماضي في مشهدٍ يُلخّص تراجيدياَ الصراع السوري عمومًا : ليدفع الشعب الكوردي ثمن التدخلات الإقليمية، وتتحول الجغرافيا البشرية لكورد سوريا إلى ساحةٍ حروب عبثية لحسابات تركية لا تنتهي.