العاصفة الصامتة: كيف حوّلت الصين ساحة الحرب الاقتصادية إلى رقعة شطرنج جيوسياسية؟

بوتان زيباري

 

في خضم العواصف التي تهزّ أركان النظام الاقتصادي العالمي، تبرز الصين كفاعلٍ استثنائي، يحوّل الضربات إلى فرص، والتهديدات إلى منصات انطلاق. فما بدأ كحرب رسوم جمركية بين عملاقين اقتصاديين، تحوّل تحت قبضة الاستراتيجيا الصينية إلى معركة جيوسياسية تُعيد تشكيل التحالفات وتُعيد تعريف موازين القوى. هنا، حيث تلتقي الحكمة بالجرأة، والدبلوماسية بالحساب الدقيق، تُكتب فصولٌ جديدة من التاريخ، تُعلن فيها بكين عن نفسها ليس كخصمٍ فحسب، بل كقائدٍ بديل لعالمٍ يتشظّى.

لقد اختارت الصين بحنكة بالغة أن تفتح جبهاتٍ متعددة في هذه المعركة، فكانت زيارة رئيسها إلى ماليزيا وفيتنام وكمبوديا بمثابة صفعاتٍ دبلوماسية موجعة لواشنطن. فماليزيا، التي تجاوزت أزمات النمور الآسيوية وصراعات الدولار، لم تكن محطةً عابرة، بل نموذجاً لاقتصادٍ صامدٍ في وجه العواصف. أما فيتنام وكمبوديا، فلديهما ذاكرةٌ طويلة مع الولايات المتحدة، ذاكرةٌ مليئة بالحروب العسكرية والاستخباراتية، مما يجعل تحالفهما مع الصين رسالةً واضحة: إن التاريخ لا يُنسى، والاقتصاد قد يكون وسيلةً للانتقام السلمي.

لكن اللعبة أكبر من ذلك. فالصين، بذكاءٍ نادر، استغلت أزمة النظام التجاري متعدد الأطراف، الذي بدأ يتهاوى تحت ضربات الحمائية الأمريكية. وعندما رفعت بكين رسومها المضادة من 84% إلى 125%، لم تكن تردّ على واشنطن فحسب، بل كانت ترسم حدوداً جديدة لمعركةٍ أوسع. فالعالم اليوم يقف على مفترق طرق: 43% من اقتصاده مركزٌ بين أمريكا والصين، والباقي يتوزع على دولٍ تتأرجح بين الخوف والانتهازية. هذه المعادلة تُنتج واقعاً مريراً: 40% من السلع الوسيطة ستكون في مرمى النيران، مما سيُربك الدول النامية، ويُقلص الناتج المحلي العالمي بنسبة 7%.

وفي خضم هذا العاصفة، تبرز إسرائيل كلاعبٍ خفي، تتراجع رسومها من 17% إلى 10%، كاشفةً عن لعبةٍ أكبر تُدار خلف الكواليس. فهل هذا التراجع تنازلٌ أم مكيدة؟ السؤال يظل معلقاً، لكن المؤكد أن الرسوم الإضافية التي جُمّدت لـ 90 يوماً قد تكون هدنةً مؤقتةً في حربٍ لا هوادة فيها. فالعالم كله اليوم تحت سقف 10%، بينما تتصاعد النيران بين أمريكا والصين إلى 145% مقابل 125%. هذه الأرقام ليست مجرد نسب، بل هي مؤشراتٌ على انقسامٍ عميق، قد يُفضي إلى قطيعةٍ تجارية شبه كاملة، حيث لا يتبقى سوى 20% من التبادل بين العملاقين.

ولكن، بينما تنكمش أمريكا وتنعزل عن المنظمات الدولية، من الصحة العالمية إلى النظام التجاري المتعدد الأطراف، تتصدر الصين المشهد كمدافعةٍ عن العولمة. إنها مفارقةٌ تاريخية: فالقوة التي صنعت العولمة تتخلى عنها، بينما التي عانت منها ترفع لواءها. الصين اليوم لا تدافع عن نظامٍ عالمي فحسب، بل تُعيد تشكيله لصالحها، مستفيدةً من الفراغ الذي تخلقه واشنطن.

الخلاصة؟ نحن أمام استقطابٍ اقتصادي وجيوسياسي لم يسبق له مثيل. فالصين تُحاصر أمريكا ليس بالسلاح، بل بالتحالفات والاقتصاد، بينما الأخيرة تُهدر قوتها في انعزاليةٍ خطيرة. الأسئلة الآن أكثر من الأجوبة: هل ستنجو العولمة من هذه العاصفة؟ أم أننا نشهد ولادة نظامٍ جديد، تُقسّم فيه الخريطة الاقتصادية إلى معسكرين، كلٌ يسير في طريقٍ لا يُقبل منه رجوع؟ الوقت وحده كفيلٌ بالإجابة، لكن المؤكد أن الصين قد خطت خطواتها الأولى نحو الزعامة، بينما أمريكا تُصارع ظلالها.

السويد

12.04.2025

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

اكرم حسين تمر سوريا بظروف سياسية واقتصادية واجتماعية مُعقّدة ، يجد الإنسان السوري نفسه في ظلِّها أمام تحدّي التوفيق بين هوياته المتعدّدة. فهو من جهة ينتمي إلى الوطن السوري، وهو الانتماء الجامع الذي يحمل الهوية وجواز السفر والشهادة ، ومن جهة أخرى، يرتبط بانتماءات فرعية عميقة الجذور، كالقومية أو العرق أو الدين أو الطائفة. ويخلق هذا التنوّع حالة من…

شادي حاجي في السنوات الأخيرة، بات من الصعب تجاهل التحوّل المتسارع في نبرة الخطاب العام حول العالم . فالعنصرية والكراهية والتحريض عليهما لم تعودا مجرّد ظواهر هامشية تتسلل من أطراف المجتمع، بل بدأت تتحول، في أكثر الدول ديمقراطية ولم يعد ينحصر في دول الشرق الأوسط ( سوريا . لبنان – العراق – تركيا – ايران وو .. نموذجاً ) وحدها…

ياسر بادلي ليس اختيارُ الرئيس العراقيّ السابق، برهم صالح، مفوّضاً سامياً لشؤون اللاجئين حدثاً عابراً يمرّ على أطراف الأخبار؛ بل هو لحظةٌ ينهضُ فيها تاريخُ شعبٍ كامل ليشهد أن الأمم التي صُنعت من الألم تستطيع أن تكتب للإنسانيّة فصلاً جديداً من الرجاء. فالمسألة ليست منصباً جديداً فحسب… إنه اعترافٌ عالميّ بأنّ الكورد، الذين حملوا قروناً من الاضطهاد والتهجير، ما زالوا…

المحامي عبدالرحمن محمد   تتواصل فصول المسرحية التركية وسياساتها القذرة في الانكار والنفي للوجود التاريخي للشعب الكوردي على ارضه كوردستان، ومحاولاتها المستمرة لالغاء ومحو كلمتي كورد وكوردستان بوصفهما عنوانا للهوية القومية الكوردية والوطنية الكوردستانية من القاموس السياسي والحقوقي والجغرافي الدولي، سواء على جغرافيا كوردستان او على مستوى العالم. تارة يتم ذلك بحجة وذريعة الدين (الاسلام)، وتارة اخرى باسم الاندماج والاخوة،…