كردستان العراق: هواجس مبررة ونهضة واعدة

صالح القلاب

يوجد وضع أصعب من وضع الزعيم الكردي مسعود بارزاني، فإقليم كردستان الذي هو رئيسه مزنر بالنيران الملتهبة من كل جانب، فالقصف المدفعي الإيراني الذي يقترب من مدينة السليمانية متواصل، ولا يتوقف إلا لفترات محدودة، ضد مواقع الثوار الأكراد الإيرانيين، والقصف التركي الجوي والبري بالمدافع الثقيلة ضد قواعد حزب العمال التركي الكردستاني في جبل قنديل الحدودي، تلاحَق وتكثف في الأسابيع الأخيرة، وتعمق ليطال بعض القرى الكردية (العراقية)، وأسفر عن مقتل سبعة من الأبرياء من أهل هذا الإقليم الذين لا علاقة لهم بكل ما يجري في هذه المنطقة.
وكل هذا وأهل الحكم في بغداد متفرقون أيدي سبأ، وكل تيار من تياراتهم المختلفة المشارب يغني على ليلاه، وبعضهم يمارس مسؤولياته اليومية كأنه لا يحتل مركزا سياديا عراقيا، وإنما وكيل للولي الفقيه السيد علي خامنئي، الذي له في بغداد وكيل عسكري آخر، إيراني الوجه واليد واللسان، هو قائد فيلق القدس التابع لحراس الثورة، قاسم سليماني.
 
ووكلاء الولي الفقيه في بغداد هؤلاء، وهذه معلومات مؤكدة، هم الذين افتعلوا مشكلة ميناء مبارك مع الحكومة الكويتية لحساب إيران مباشرة، فكثير من كبار المسؤولين العراقيين الذين يرفضون أي تدخل من قبل دول الجوار في شؤون بلادهم الداخلية، يؤكدون أن بناء هذا الميناء لا تأثير له على ميناء الفاو العراقي المقابل، وأن كل ما في هذه المسألة أن الإيرانيين افتعلوا هذا الإشكال لإبعاد الأنظار عما بقوا يمارسونه في العراق، منذ احتلال القوات الأميركية له في عام 2003، وعن تكثيف تدخلهم السافر في شؤونه الداخلية بعد انفجار الانتفاضة السورية في مارس (آذار) الماضي، التي باتت تهدد نظام الرئيس بشار الأسد، الذي هو الحليف الاستراتيجي في هذه المنطقة لنظام الثورة الخمينية.
 
ولهذا فإن عين مسعود بارزاني الحذرة دائما، بحكم تاريخ طويل من الصراع تعرض خلاله الشعب الكردي في هذا الإقليم، وفي دول الجوار كلها من دون استثناء، إلى مذابح جماعية، من بينها محرقة «حلبجة»، ومجزرة «الأنفال»، ومشانق «كرمنشاه» في إيران في عام 1979، تبقى مركزة على بغداد، التي غدت تبدو كفتاة مطعونة في ثديها و«مشلوحة» على شاطئ دجلة، الذي غادره عزه السابق قبل ظلام الانقلابات العسكرية المتلاحقة، وقبل عهد نظام الخوف والوحشة، وبات يغرق في القمامة والبؤس والمأساوية، وتبقى متنقلة بين الحدود الملتهبة مع إيران، والحدود مع تركيا، التي تحولت إلى ساحة قتال منذ أن أقصى رئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان، كبار جنرالات جيشه الذين لا يزال ولاؤهم لمصطفى كمال «أتاتورك»، أكثر من ولائهم لرئيس دولتهم، عبد الله غل، ومنذ أن انفجرت ثورة الشعب السوري المباركة التي تشير كل التقديرات إلى أنها غدت قريبة من لحظة الانتصار، التي ستكون لحظة تاريخية فعلا وعن حق وحقيقة.
 
والمؤكد أن مسعود بارزاني الذي، بالإضافة إلى أنه قد قاد الثورة التي ورثها عن والده الملا مصطفى بارزاني، الذي لا ينكر إلا جاحد ومناكف وحاقد أنه أحد رموز القرن العشرين، إلى دولة فعلية حقيقية، مع أنها مجرد إقليم بحكم ذاتي في دولة العراق الفيدرالية (الاتحادية)، هو رجل دولة بمواصفات القرن الحادي والعشرين، تراوده مخاوف فعلية على هذا الإقليم وعلى الدولة العراقية كلها، أيضا، نتيجة كل هذا الذي يجري في هذه المنطقة، ونتيجة كل هذا الغموض الذي يلف الأحداث العاصفة في سوريا المجاورة، التي بحكم خبرته وتجاربه القاسية والمريرة يعرف أهميتها في الشرق الأوسط، ويعرف أنها بحكم عوامل كثيرة دولة استراتيجية ومحورية.
 
إنه لم يقل هذا، نظرا لحذره الدائم من التسرع في اتخاذ المواقف التي لها تأثير مباشر على شعبه وعلى قضيته، ولكن المؤكد أن مسعود بارزاني يشعر بثقل ومخاطر التدخل الإيراني في العراق وفي هذه المنطقة الشرق أوسطية كلها، وأنه يدرك أن فشل الانتفاضة السورية سيعزز دور إيران في الإقليم كله، وأن هذه الدولة صاحبة المشروع التوسعي ستمتد بهيمنتها لتشمل، بالإضافة إلى العراق، بلاد الشام كلها ودول الخليج ومصر، إن صمد نظام الرئيس بشار الأسد وبقيت سوريا في إطار تحالف «فسطاط الممانعة والمقاومة».
 
إن من يستمع إلى مسعود بارزاني ويصغي إليه، ويتعمق في كل كلمة يقولها بصيغة الهمس، التي تقترب من مناجاة الإنسان لضميره، يشعر بأنه غير معاد للرئيس السوري بشار الأسد ونظامه، وأنه يتمنى لو أنه بادر إلى إصلاح أوضاعه قبل أن تصل الأمور إلى ما وصلت إليه، ولكنه في الوقت ذاته يرى أن مع الشعب السوري كل الحق في أن يطالب بالتغيير، وأن يصر على الانتقال ببلده من الحالة التي توقفت عند بدايات ستينات القرن الماضي إلى القرن الواحد والعشرين بكل معطياته ومواصفاته، وبكل ما وصل إليه من عولمة وتطور بلغ ذروته، وبخاصة في مجال الإعلام ووسائل الاتصال الجماهيري.
 
ولعل ما يجدر ذكره هنا هو أن كل هذه الهواجس الإقليمية التي يعيشها هذا الرجل، الذي وجد نفسه، منذ أن غدا يدرك الأشياء، في عين العاصفة، وثائرا في الثورة المعجزة التي أطلقها والده الملا مصطفى بارزاني، وبقي يقودها ويصر على انتصارها لأكثر من نصف قرن، لم تنسه هموم هذا الإقليم، إقليم كردستان العراق، الذي كابد الأمرين من ظلم الأنظمة التي تلاحقت على العراق منذ إطاحة النظام الملكي في عام 1958، الذي هرسه نظام ما بعد انقلاب عام 1968 بجنازير الدبابات، وحرق مدنه وقراه بقنابل «النابالم»، وبالكيماوي المزدوج، وأزهق أرواح أهله بغازات الخردل والغازات السامة المحرمة دوليا.
 
لم تمض إلا ثمانية أعوام على الشعور بالاطمئنان، لكن مع ذلك فإن كل من يزور أربيل العاصمة التاريخية الجميلة، التي تعاقبت عليها حضارات كثيرة، وكل من تأخذه قدماه نحو الشمال، أي نحو جبال كردستان التي تذهب إلى الغيوم لتعانقها في كبد السماء، ونحو أودية سوران وبارزان وبهدنان، التي تتسلل من خلالها كل صباح أشعة الشمس لترتشف رحيق الزهور التي تزين حواف أنهارها الجميلة، لا بد أن يدرك أن وراء كل هذه النهضة، التي تشبه بداياتها بداية نهضة دبي، إرادة عظيمة وعقلية فذة؛ فالأبنية الجميلة تنبت في كل مكان، والشوارع التي كانت قبل أعوام قليلة حفرا متربة في الصيف، وموحلة في الشتاء، تضاهي شوارع أفضل الدول الأوروبية المتطورة.
 
وكل هذا بينما يشعر من كان زار هذا الإقليم الواعد سابقا، ويزوره الآن بعد سنوات الاستقرار هذه، بأن أهله لم يتعلقوا بالوحدة مع العراق، ولم يشعروا بالانتماء إليه والحرص على أن يكونوا جزءا منه في الإطار الفيدرالي كما يشعرون الآن، والدليل هو أن علم العراق بنجومه وبعبارة الله أكبر في وسطه بات يرى مرفوعا إلى جانب علم كردستان، الذي هو علم جمهورية «مهاباد»، الذي كان الملا مصطفى بارزاني وزير دفاع في حكومتها التي كانت ضحية لعبة الأمم، ولم تعمر إلا لبضعة أسابيع، فوق كل الدوائر الرسمية، وكل هذا بينما شوارع أربيل والسليمانية ودهوك تطفح بالعرب العراقيين الذين جاءوا ليملأوا رئاتهم من هواء هذه المنطقة التي يشعرهم أهلها الأكراد بأنها منهم وأنهم منها، وجاءوا ليرتاحوا ولو قليلا من سماع صوت الانفجارات، وأصوات قادة أحزابهم التي قادة بعضها يقدمون ولاءهم لإيران والولي الفقيه على ولائهم لبلاد الرافدين، بما فيها كربلاء والنجف وملوية المعتصم في سامراء.
 
 

الشرق الاوسط

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

خالد بهلوي تحت شعار “وقف العنف والتهجير – العيش المشترك بسلام”، وبمبادرة من مجموعة نشطاء من الشابات والشباب الغيورين، شهدت مدينة إيسين الألمانية يوم 21 ديسمبر 2024 وقفة احتجاجية بارزة للتعبير عن رفض الاحتلال التركي والتهديدات والانتهاكات التي يتعرض لها الشعب الكردي المسالم. الحضور والمشاركة: حضر الفعالية أكثر من مائه شخصً من الأخوات والإخوة الكرد والألمان، إلى…

د. محمود عباس ستكثّف الولايات المتحدة وجودها العسكري في سوريا وستواصل دعمها لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) والإدارة الذاتية. تدرك تركيا هذه المعادلة جيدًا، وتعلم أن أي إدارة أمريكية قادمة، حتى وإن كانت بقيادة دونالد ترامب، لن تتخلى عن الكورد، لذلك، جاء تصريح أردوغان بعد عودته من مصر، ووزير خارجيته من دمشق اليوم كجزء من مناورة سياسية تهدف إلى تضليل الرأي…

شادي حاجي المرء لا يذهب إلى طاولة المفاوضات وهو خالي الوفاض وإنما يذهب وهو متمكن وقادر والمفاوض يكشف أوراقه تدريجياً تبعاً لسير العملية التفاوضية فعند كل منعطف صعب وشاق يقدم المفاوض بطريقة أو بأخرى معلومة ولو صغيرة حول قدراته على إيقاع الأذى بالطرف الآخر من أجل أن يكون مقنعاً فعليه أن يسأل عن مقومات الندية والتي تتركز على مسألة القوة…

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه”1970-2024″ كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. إذ إن بعض…