هنا دمشق….! (2)

إبراهيم اليوسف

ليس من نبيه، البتة، إلا وهو يستطيع فكَّ إشارات اللحظة، وقراءتها، شيفرة شيفرة، تحت ضوء ما يجري حوله، من وقائع، حتى وإن لم يكن من الضالعين، في استخلاص ما يجري من معادلات بدهية، أمام عينيه، وتسمية: الشمس شمساً، والغيم غيماً، والغبطة غبطة، والأمل أملاً، والجمال جمالاً، والقبح قبحاً، لاسيما وأن مخاض الكائن الحي، بعيد استكمال شروط ولادته، ليعني أن هناك تحولاً هائلاً سيجري، مادام أن الجديد المقبل، وهو المأمول، المرتقب، لابدَّ وأن يكون من صلب ماض، في سيرورة مضارعه، وحاضر يرتبط بوشائجه بما قبله، وما بعده، وهو يجلي ملامح المستقبل الأكيد.
هكذا، تماماً، يمكن قراء ة “الشآم”، دمشقاً، تقف على أعالي ذرا قاسيون، تمسح أخطوطة العابر، بماء بردى، بعد أن تعيد إليه الهدير، والنقاء، والجبروت، كي يكمل الماء دورته نفسها، بمعونة الهطل المضرب عن مهماته، في استعادة التواشج مع ما يلزم من برق، وإعصار، ورعد، لتعود الملامح المغيبة على امتداد سنوات طويلة خلت.
اللَّوحة واحدة، هي دمشق، القلب، في الجسد السوري، تتبعها عربات المدن، واحدة تلو أخرى، وهي تنفض عن ذاتها الغبار المتراكم، وطلاء الخوف، كما أن للوحة نفسها ثمة قراءة صائبة-طالما غيبت- مهما حاول مفتو القراءات المغلوطة، ساسةً، ودهماءَ، ومداهنين، أفاقين، أفاكين، ما لبثوا يزورون ما حولهم من حقائق بائنة، تمتدُّ من الأرضين حتى عرش إله، في ملكوت الجلال، قالبين كلَّ ما في حدود حبر خطابهم، وأصداء أصواتهم، في سيرك “جمهرات” لاعبي الحلبة، وهي تتحرك، تحت أرجلهم، خارجة على السكون الذي كانته طويلاً.
-بيان تلو بيان
-خطبة تلو خطبة
-سجدة تلو أخرى لصورة الدكتاتور المصطنع، وفتوى قيد الصناعة…
شبيحة تدوس أبواطهم الملوثة كعقولهم، سجاجيد جامع الرفاعي،يصطادون  التكبيرة، في صداها، يهش الشبيح على رأس الشيخ أسامة الرفاعي بالسوط الكهربائي،يرميه أرضاً، قبالة قهقهة الضابط….تتدحرج على بلاط البهو….!
هنا دمشق…!
هنا دمشق……!
 
مركبة تلو أخرى، يقفز منها المقبولون بعشرات الآلاف، في المهنة الجديدة، أشباحاً، مرتزقة، يعدون أيامهم، فحسب، بعد أن ضاقت خزانة البلاد بهم- وبمن هم مئات الآلاف في عرف الرئيس في تباه ونذير- فيتولون أمر مداهمة البيوت الآمنة-بعض رصيد الإرهاب المهدد به من قبل اسم المقام الموقوت الأول،عينه،يختطفون من يقع بين أيديهم، اعتباطاً، ليتمَّ الرهان على الإطلاق أسره مقابل المعلوم، قبل أن يمزق جسده إرباً إرباً، في بلد، كل شعبه، مطلوب للاعتقال، والرصاص، والخيانة، مالم يصفق لشبح النظام.
ساسة افتراضيون، لا يزالون يصدرون صحفهم الصفراء، يعلنون النفير في أبعاض مهزومين موالين منادين في إهاب الولولة: أن هناك مؤامرة، والمؤامرة هنا، قرب مكاتب هؤلاء، حيث ثمة من يشرع بحرق البلاد، بيتاً تلو بيت، فرداً تلو آخر، كي يستديم العرش إلى أبد مخادع، ويلف اسمه بوشاح الوطنية الملفقة…..
الشارع، وهو يخلع قميص الخوف، ويرتدي إزاره الأبيض، تحت إبطه، ليكون كفناً، أو ثوب عرس وطني، حيث لا خيار آخر، غيرهما، لم يعد يمنح تلك السيارات التي تنهب الأرض، ما يكفيها من راحة بال، وفسحات، مادام شاغلوها، يمضون، بحسب ذبذبات الرادار، يقودهم إلى المكان: الشعب يريد إسقاط النظام، حيث الأمكنة المتناثرة، كلها، تغدو واحدة، وهي تبوصل الهتاف: الشعب يريد إسقاط النظام……….!
إعلانات الشوارع، تحمل الصورة موقوتة، تظهر فيها “صلعة” غسان بن جدو”، من دون كوبون علني، و تحية عابرة، لدبٍّ روسيٍّ، أو تنينٍ صينيٍّ، أو تحنط صدى مزوراً” منحبك”، تلك الكلمة التي كتبها لي ابنُ الخامسة عشرة من العمر في 2006، في لفافة” الفوتوشوب”مانحبك…..!، كي أرسلها إلى موقع إنترنيتي، يضيق به، لخلل فني، و تعذر في الإرسال عبر بريد إلكتروني يحبط بطؤه إرسال الحلم، في هيئة منشور مقروء، في أوسع ما يمكن من دوائر.
-هنا دمشق…!
الصوت يظلُّ مستمراً، في حدود الذبذبة والصدى المطلوبين، كي أصل إلى مطار، طالما كان “أمَّ الفزاعات” بالنسبة إلى السوري، ألثم الأرض، أرض دمشقي، بعد أن غسلها هطل الجمعات المتتالية، وأنا عارف كم من ” حصة كردية”، تشفع لي في هذا الرصيد الوطني، حتى وإن تجاهله جاحدان- لا فرق بينهما في الأمر- مادمت  في حضرتهما، أغدو، أمام وعيد” سجنين”، أحدهما كائن، والآخر رهن تأسيس كينونة، ربما أبشع..؟.
-هنا دمشق…..!
هنا أنين السجين في طريقه إلى النطع….!
هنا أنين الجريح بلا طبيب ودواء…!
هنا أنين الأم الثكلى وهي تصلي الشكرللرب في غيابة ولدها….!
هنا أنين الممرضة تذرف الدموع على طفل خديج مات بعد قطع الكهرباء من قبل فرع الأمن العسكري.
هنا دمشق….!
هنا قامشلي
 
 
حيث الفضائية، الجريدة، الموقع الإلكتروني،المحلل السياسي-موارياً وجهه مبصوقاً على أكاذيبه بعد لعق الهزيمة النكراء -كي يقول المذيع الأبتر: قامت الجهات الأمنية” المختصة بالقتل” بالرد على الإرهابيين وقتلت كذا فرداً منهم، وهي أكذوبة الإعلام مسبق الصنع، لتسويغ أكذوبة القاتل، شبيحاً، أو أمنياً.


هنا دمشق…!
حيث، باتت رائحة قتل الآدميين، في سوريا، تفقدها الأصدقاء، واحداً واحداً، بعد أن شاركتها في قتل ابن سوريا، وتيتيم الأطفال، وإبادة أسر كاملة من خريطة الحياة.
هنا دمشق…!
هنا دمشق..
هنا دمشق..
الجامع الأموي، مقهى الهافانا، ساحة الحجاز
المزة-البرزة- الصالحية-حي الكرد- الهامة- نهر عائشة…
 
تظهر قطعان -جيش النظام- لن أقول الجيش السوري- حيث يهلهل الجندي، فوق ظهر دبابته، راسماً” شارة النصر”، كي يرد البطل الهمام في المسيرة الاحتجاجية، في مدينة كردية: على من تتجاسر أيها الصعلوك؟؟، وهو يدير ظهره لحدود تقبع بياراته، مسروقة، وهو الذي يعرف أنه-في انتظار صدقة المنتصر عليه- يتسول رغيفه، وكأس شايه، بعد أن سرق قائد كتيبته أرزاقه، وحولها المحاسب إلى “استراحة الضابط الأكبر”…..
يتبع……
elyousef@gmail.com

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

د. محمود عباس   يعوّل الشعب الكوردي على المؤتمر الوطني الكوردي في غربي كوردستان بوصفه لحظة مفصلية، لا لمجرد جمع الفاعلين الكورد في قاعة واحدة، بل لتأسيس إرادة سياسية حقيقية تمثّل صوت الأمة الكوردية وتعبّر عن تطلعاتها، لا كفصيل بين فصائل، بل كشعبٍ أصيلٍ في جغرافيا ما تزال حتى اللحظة تُدار من فوق، وتُختزل في الولاءات لا في الحقوق. إننا…

ماهين شيخاني في عالم تُرسم فيه الخرائط بدم الشعوب، لا تأتي التحوّلات العسكرية منفصلة عن الثمن الإنساني والسياسي. انسحاب نصف القوات الأمريكية من شرق الفرات ليس مجرد خطوة تكتيكية ضمن سياسة إعادة التموضع، بل مؤشر على مرحلة غامضة، قد تكون أكثر خطراً مما تبدو عليه. القرار الأميركي، الذي لم يُعلن بوضوح بل تسرب بهدوء كأنّه أمر واقع، يفتح الباب أمام…

لم يعد الثاني والعشرون من نيسان مجرّد يومٍ اعتيادي في الروزنامة الكوردستانية، بل غدا محطةً مفصلية في الذاكرة الجماعية لشعبنا الكردي، حيث يستحضر في هذا اليوم ميلاد أول صحيفة كردية، صحيفة «كردستان»، التي أبصرت النور في مثل هذا اليوم من عام 1898 في المنفى، على يد الرائد المقدام مقداد مدحت بدرخان باشا. تمرّ اليوم الذكرى السابعة والعشرون بعد المئة…

د. محمود عباس قُتل محمد سعيد رمضان البوطي لأنه لم ينتمِ إلى أحد، ولأن عقله كان عصيًا على الاصطفاف، ولأن كلمته كانت أعمق من أن تُحتمل. ولذلك، فإنني لا أستعيد البوطي اليوم بوصفه شيخًا أو عالمًا فقط، بل شاهدًا شهيدًا، ضميرًا نادرًا قُطع صوته في لحظة كانت البلاد أحوج ما تكون إلى صوت عقلٍ يعلو فوق الضجيج، مع…