دخلت الانتفاضة السورية شهرها السادس اعتباراً من اليوم السادس عشر من الشهر الجاري من دون أن تبدو في الأفق القريب أية بوادر تبشر بطي ملف الأزمة التي عصفت بسوريا منذ أواسط آذار الماضي وإلى اللحظة.
إذ ليس من المعقول أن يكونَ الحلُّ الأمني ناجعاً وصحيحاً في منظور النظام السوري ، وكل دول العالم من العرب والأوربيين والأتراك ومنظمة التعاون الإسلامي وأميركا، وكل المتألمين جراء تدهور الوضع الأمني في سوريا على خطأ، وكان يفترض أن يسمع النظام قبل كل هؤلاء آلام خيرة شبابه الذين يقتلون بدم بارد، ويستمع إلى صوت الحق والمنطق، ويعي أن القتل والسحل والتنكيل وانتهاك حرمات البيوت ودك المدن والقرى السورية بالدبابات والأسلحة الثقيلة لن تجلب النصر للوطن، كان يفترض بالنظام ألا يسمح لتلفزيونه الوطني أن يصوّر جنود الوطن الذين رفعوا على ظهور الدبابات السورية وحافلات الجند شارات النصر، ولوحوا بأعلام الوطن وكأنهم عادوا مظفرين من معركة وحرب مع العدو الإسرائيلي، هؤلاء الذين قيل أنهم انسحبوا من مناطق التوتر، وقضوا شرَّ قضاء على” العصابات المسلحة والمخربين والخارجين عن القانون.
هذا المنظر- منظر الجنود الذين عادوا من معركة الوطن ظافرين غانمين سيظل يحفر بالذاكرة السورية طويلاً، وهو منظر غاية في الإيذاء والوجع والإحساس العام بالخيبة والخذلان، وسيخلق جيلاً جديداً يحتفظ بهذه الذاكرة، وهذا ما سيصعب أكثر تصور مستقبل سوريا الغد التي ننشدها جميعاً جميلة، وتفتح صدرها للجميع دون تفرقة بين هذا المكون وذاك، وهذه الإثنية وتلك.
الرز الذي تناثر على “رؤوس الجند السوريين، وزغاريد النسوة، ومصافحة الرجال وتوسلات الأهالي ببوس يد أعلى سلطة ليدخل الجيش، ويقضي على هؤلاء “المجرمين” وعناق الجيش السوري من قبل جماهير حماة ودير الزور وقبلها في درعا وجسر الشغور وإدلب وحمص وغيرها الكثير من المحافظات والمناطق السورية والقرى السورية، هذا الرز، وهذه الأغرودات كان ينبغي أن تصدح بها حناجر أمهاتنا وأخواتنا حينما يعود هؤلاء من جبهة مع الأعداء، وهي جبهة يفترض أن تكون مفتوحة وساخنة، لا بل تأخرنا كثيراً لأننا لم نفتح بعد هذه الجبهة التي تبعد عن درعا أقل من عشرين كيلو متراً، وقتها كنا سنفرح، ونصدح كلنا نحن السوريين الذين نحب سوريا للنصر الذي تحقق على أيدي جيشنا الذي قطعنا له من لقيمات صغارنا حتى اشترينا لهم العتاد وأمنّاه على حياتنا، وعلى حماية حدودنا والسهر على أمننا الذي لم ولن يتهتك، ولا يتأذى جراء خروج سوريين مثلنا إلى الشوارع مطالبين بالعدالة الاجتماعية والحرية بمطلق معانيها، هذه المطالب التي لاقت استحساناً ومشروعية وأحقية عند جميع هرم النظام في المقابلات التلفزيونية والتصريحات الرسمية الموجهة لإرضاء الخارج لا الداخل.
إن الهروب إلى الأمام لا يجدي، ولا يحلُّ المشكلَ السوري، بل يدخله في دهاليز عميقة.
في سوريا أزمة وطنية خطيرة، ولم تصب سوريا ما أصابها اليوم في كل تاريخها، وحتى اللحظة لا يبدي النظام أية مرونة أننا جميعاً أمام مشكلة عويصة لم يفلح إزهاق كل هذه الأرواح لحلها، المشكلة أن النظام لا يقر، ويفصح دون خوف أن هناك مشكلة في سورية، بل ومشكلة عميقة، فكيف سيفكر بحلها؟؟ والتمسك بمبدأ أن هناك مؤامرة دولية على سوريا لا يساهم في الحل، لأن النظام والحال هذه سيستمر في حلوله الأمنية الحالية، ولن يفكر في غيرها وهذا مكمن الخوف على سوريا أرضاً وشعباً، ويفتح باب الاحتمالات واسعاً لكل الاحتمالات الممكنة وغير الممكنة.
ليس مقبولاً إقناع السوريين والدم يهرق كل ساعة بأن أيَّ نصح هو تدخل في الشأن السوري الداخلي، كما ينظر النظام الإيراني ضمن هذا المنظار، ولا يجد طريقاً آخر للحل، وهو طريق مسدود وكثير المطبات والآلام.
آن الأوان ليحتكم النظام إلى لغة العقل ونبذ لغة العنف والقوة المفرطة التي أضرت بالنظام قبل المتظاهرين والتي لم تجلب غير الخراب والويلات للشعب السوري ،وهاهو يخوض إلى اللحظة مواجهة مريرة بإركاع المنتفضين بقوة السلاح دون أن تبدو أية نجاعة لهذا الجانب من الحل.
الضرر الذي لحق بالنظام ولو خارجياً تمثل بازدياد أصوات محاصرته دبلوماسياً واقتصادياً، ودعوات التنحي وسحب السفراء، وغيرها الكثير.
عملياً آلة القتل الشرسة لم تخمد الانتفاضة بل أججتها، إذاً ما الداعي لاستمرار هذا السيناريو الذي أثبت فشله الذريع؟ فهاهي المدن والقصبات السورية التي ما إن تشهد رخاوة بسيطة من جانب العسكر والسلاح الثقيل حتى تعاود الخروج والتظاهر، لا بل أن هذه القوة المفرطة هي التي أوصلت البلاد إلى هذا الوضع الكارثي الذي نحن فيه الآن، وهي التي رفعت شيئاً فشيئاً من سقف الشعارات المطلبية البسيطة التي تمحورت في حفر بئر ارتوازي هنا ومشفى هناك، والسماح بتأسيس جمعية خيرية، إلى الجهر علانية بإسقاط النظام.
الجمهور السوري الذي يخرج إلى الشوارع لم يتأدّب، وكسر حاجز الخوف، وعندما يكسر هذا الحاجز ينبغي التفكير بآلية مقابلة يكون النصح والإصلاح الحقيقي هو سيد الموقف وهو اللغة الوحيد ة الذي يفهمها السوريون في الوقت الحالي.