وكان الله في عون السوريين – 1 –

د.

آلان كيكاني

قبل بضع سنين أنهيت دراستي في مجال الجراحة بعد أن أمضيت دهراً على مقاعد الدراسة وبتكاليف كبيرة اقتطعتْها عائلتي من خبزها اليومي لترى ابنها طبيباً يزيدها شرفاً ويعينها في حياتها, وكانت هذه العائلة قد جهزت لي عيادة ابتاعتها بشق الأنفس في ظل غلاء أسعار البيوت والعقارات وجشع التجار غير الخاضع لرقيب أو حسيب , وجاء يوم افتتاح العيادة وتهافت الأصدقاء والأقرباء على تقديم التهاني والتبريكات حتى وقت متأخر من الليل .

كف المباركون عن المجيء عند منتصف الليل وبقيت وحدي لم ابرح مغادرة عيادتي من فرط فرحي بها, رحت أفكر في تلك اللحظة مدفوعاً بنشوة وسعادة غامرة أنستني اربعة وعشرين سنة قضيتها على مقاعد الدراسة أكدُّ وأجدُّ وأجاهد دون كلل أو ملل .
 أفكر في تلك الأيام التي كنت فيها أطبخ وأجلي وأغسل ثيابي وأنظف بيتي ثم انقضُّ على الكتاب في سباق مع الزمن فرضه ضخامة مناهج الطب في جامعات البلد وصعوبتها , فكرتُ كثيرا تلك الليلة وقلت في نفسي: ابشر بمستقبل زاهر أيها الطبيب الشاب قريباً سيكون لك من عملك بيت فخم وسيارة فارهة وزوجة تختارها وستستلذ بحاجة الناس إليك , ستساعدهم في مصائبهم قدر ما تستطيع, وستكون ذا شأن بينهم , وستكون لك منزلة في الدولة وأنت الآن عضو في نقابة الأطباء وتضع ربطة العنق بإتقان.

عشت في تلك الليلة في هالة من الأحلام الوردية قبل أن أخلد إلى النوم, حلمت بالمواطن يدخل عيادتي ببسمة تعلو وجهه وتحية خاصة وبالموظف يهب لاستقبالي حين أزور مكتبه وبرجل الأمن يكف بلاه عني في الشارع ! حلمت بذلك لا طمعاً بجاه أو كبرياء وإنما لعلم أحمله والعلم ذو قيمة عليا حتى عند أكثر المجتمعات بدائية وتخلفاً .

ولماذا لا أحلم ؟ وأنا أعلق في مكتبي أعلى شهادة يمكن أن يحصل عليها المرء في بلده !
تصطدم الأماني النبيلة في الدول التي يغيب فيها العدل ويسود فيها الفساد بواقع هو أشد قسوة من الحجارة .

لا تسمح هذه الدول لمواطنيها بالعيش بكرامة , وليست هي معنية بكرامة مواطنيها بل إن غايتها ومرماها هو بقاء الفاسدين على سدة الحكم لإدمانهم على السلب والنهب للسلطة والمال .

في مثل هذه الدول التي يمارس فيها الحاكمون أنانيتهم بأقصى درجاتها تتلاشى روح الجماعة بين المواطنين ويضمحل الوجدان ويخبو الضمير ويسود منطق الأنانية الصرفة حيث يفكر كل امرء بمنفعته الشخصية دون أن يعير أية أهمية لمصلحة الجماعة , وهكذا , يشيد رئيس البلدية قصراً له من مال الشعب دون أدنى إحساس بما تعانية الجماعة من شوارع وعرة وروائح نتنة وكهرباء مقننة ومياه ملوثة , ولا يهم القائمين على الصحة سلامة مواطنيهم من المرض والأذى بل إن جل غايتهم ينصب على جمع المال حتى إذا كان بطريق الكذب والاحتيال والتملص من آداب وأخلاقيات المهنة.

هذا ما اتضح لي في الأشهر الأولى من اشتغالي في عيادتي الخاصة التي قمت فيها بعملي مستعيناً بالله ومستنداً على ضميرٍ كان يدفعني في الكثير من الأحايين إلى أن أكون عطوفاً على المرضى ومعيناً للفقراء منهم قدر استطاعتي مما ألهب مكامن الحقد عند البعض من زملاء المهنة ودفعهم إلى الكيد ونصب الفخاخ للحيلولة دون تمادي هذا الطبيب الجديد في سوقهم .

تجد نفسك في مثل هذا المناخ في حرب قذرة ودنيئة لأن مادتها صحة بني البشر ومقاتليها حاملو شهادات عليا في مجال لا يختلف عليه اثنان على أنه إنساني .

لا أسرد هذه القصة كعتب شخصي وإنما أريد منها تبيان ظاهرة عامة تحدث في كل لحظة في أرجاء البلد الجريح سورية في ظل دولة البعث العربي الإشتراكي منذ خمسين عاماً.

  
قد يسأل سائل ما ذنب الدولة بهذا الفساد الآنف ذكره ؟
تلك مسالة ليس الجواب عليها بتلك الصعوبة , وهو أن الدولة تريد البطلان والفساد وتشجعه وتحض الناس على ممارسته , وليس العدل من مصلحتها ولا هو من شيمها لأنها أقيمت على باطل , أساساً وأركاناً , ولا تستطيع الاستمرار إلا في مستنقع البُطل والفساد , شأنها شأن الخنفساء التي تتشكل وسط الروث وتعيش فيه , إن وجد الروث انتعشت وإن بعدت عنه ماتت .

أضف إلى ذلك أن الرجل إذا فسد سقطت عنه النخوة وفقد الغيرة والعصبية وهو ما تحبه دولة البعث في المواطن , تريده مواطناً منزوع القيم مهدور الكرامة يمجد جلاديه ويهتف باسمهم ويفدي الفاسدين بالروح والدم جهراً وعلانية .
زارني ذات مساء في تلك الاثناء ممرض يعرض علي مشروعاً تجارياً يفيد كلينا , على حد تعبيره , وهو أن يأتيني بالمرضى ثم يقاسمني الغلة آخر النهار , على أن أعمل وفق تعليماته وإرشاداته ولا أحيد عنها أبدا , أي أن أعالج المريض وفق ما يرتأيه هو , إن قرر عملاً جراحياً فليس من حقي أن أعارضه حتى إذا كان المريض لا يحتاج إلى الجراحة أبداً , لأن ذلك من شأنه أن يفقد شريكي نصف إجرة العملية ! أبديت امتعاضي من خطته الشيطانية التي تفتقد إلى الكثير من الرحمة والشفقة بحق أناس بؤساء يلمون خبزهم اليومي من قطاف القطن أو الزيتون.

لكن الرجل فزَّ وقال:
أنصحك أن تتصرف كما غيرك , أن تقتني رهطاً من السماسرة يجوبون لك الشوارع ويأتونك بالمرضى.

وأن تحارب الدعاية السيئة عليك بدعاية مضادة أشد منها سوءً , وتنشر الأكاذيب والدعايات على أندادك , وأن تكون زئبقياً تتقن فنون التملص والتغلغل واللف والدوران , حربائياً تعتنق دين من حولك وتقيم صلواتهم !
ثم انصرف زائري يمهلني مجالاً أفكر فيه بشأن خطته الاقتصادية تلك .

.
وضعت رأس على طاولتي وبدأت أفكر :
هكذا إذاً , إذا أردت جني المال عليّ أن أكذب على هذا وأخدع ذاك , أنصب على هذا وأغش ذاك , أقذف هذا وأذم ذاك , أركل هذا وأصفع ذاك .

عليّ أن أتحرك , أنا الطبيب , في المسار الذي رسمه لي الممرض وإلا لن يزور عيادتي مريض .

لعمري أن أبقراط يبكي في قبره  .

.


لم أناقش مع نفسي فكرة الممرض , والحق أنها أغضبتني لما فيها من خدش للكرامة وغلاظة في القلب لم استطع تقبلها على نفسي , ولست مضطراً على قبولها وفي أسوء الحالات ستغطي عيادتي مصاريفي الشخصية إذا لماذا أضحي بكرامتي وأضرب عرض الحائط القسم الذي أقسمته في النقابة ؟ اغتممت قليلاً وقررت زيارة طبيب جمعتني به صداقة حميمة دأبتُ على زيارته كلما ضاق صدري وهو البارع في علاج الاكتئاب بدماثته وخفة دمه , كان في تلك الليلة مناوباً في المستشفى الوطني , لم أكد انتهي من السؤال عن حاله حتى زعق نفير الطوارئ في قسم الإسعاف ينبئ عن أن حالة خطرة طارئة قد وصلت , هرع الرجل باتجاه قسم الإسعاف وتبعته , لنجد المسعَف فتاة صغيرة محروقة بصورة بشعة وكأنها تم شواؤها على نار قوية قضت على ملامحها وغطت كل جسمها بطبقة سوداء مشوية من لحمها , انشغل صديقي بتقديم المعونة الطبية بينما أخذت مكاني قريباً من طاولة الاستقبال لأسمع قصة هذا الحدث المرعب من الرجل المسعِف والذي تبين أنه فاعل خير يملك سيارة أخذ على عاتقه هذا العمل النبيل وأسعف المريضة من قرية نائية في الريف السوري.


قال أنها تبلغ من العمر ثلاثة عشر عاماً … وهي كبرى شقيقاتها الثلاث ولها أخ رضيع … ماتت أمها قبل ستة أشهر … وأبوها ضرير لم ير النور في حياته ويعاني من مرض في القلب … وهي المعيل الأوحد للأسرة بعد وفاة أمها … تعيش في فقر مدقع في دار من طين مع بقية أفراد العائلة … ليس لديها أعمام … وأخوالها هاجروا مع عائلاتهم إلى لبنان يتعقبون خبزهم … ليس للعائلة سوى بعض الصدقات التي تأتي من هنا وهناك تبقيهم على قيد الحياة … وهي التي تقوم بأعمال البيت كلها وكانت قبل الحادثة تشغّل بابور الكاز لتعدَّ الشاي للعائلة وانفجر بها البابور وكان ما كان .
بلع الرجل ريقه بمرارة متأثرة بحالة المسكينة ثم أضاف :
والله لا معين لهم إلا الله , هم يعيشون في حالة مزرية من البؤس والشقاء.
قلت له مستغربا :
والدولة , يا رجل , أينها ؟ واين دور الإيتام ؟ أين ضمير الأغنياء من البشر ؟
ابتسم الرجل وقال هازئاً :
ماذا قلت ؟؟ الدولة ؟؟ يا ما رفع أهل القرية تقارير بشأن هذه العائلة المنكوبة ولم يلقوا جواباً .

ودار الإيتام يتماطلون في القبول , قيل أنهم يريدون رشى للموافقة !
هنا طلب صديقي جهاز منفسة على وجه السرعة لأن التنفس بدأ بالانحدار الشديد لدى المريضة ولكن تأمين مثل هذا الجهاز ليس سهلاً في دولة لا يستطيع فيه اليتيم دخول دار الإيتام إلا بالرشوة .

بقينا ننتظر الجهاز وسط جلبة أكثر من ساعة حتى لفظت المريضة أنفاسها الأخيرة .

 
في تلك الليلة قررت الهجرة على مضض من وطن لي فيه أهل وأصدقاء وذكريات لا تنسى , وهاجرت .
وإذا كنتُ ذا مقدرة على الهجرة والعيش كريماً في الغربة بفضل شهادتي , ترى , ماذا عن الملايين من أبناء البلد الذين لا حول لهم ولا سلطان ولا خيار سوى أن يرضخوا للظروف رغم قساوتها , وأن يتجرعوا الذل رغم مرارته ؟
هؤلاء كيف يتدبرون أمور معيشتهم في وقت زادت فيه حاجات البشر عما كانت عليه من ذي قبل ؟
ترى ماذا يمكن أن تفعل خمسة آلاف ليرة سورية يقبضها عامل نهاية الشهر ؟
كيف يغطي بها مصاريف بيته وأولاده ؟
ثمة الملايين منهم في أنحاء الوطن: ماذا يأكلون ؟ وماذا يلبسون ؟ وراتبهم لا يوازي ثمن حذاء من الجلد الأصلي !
ماذا عن المريض الذي يئن ألماً ولا يجد دواءً , يُلقى به في المشافي العامة ويمكث فيها دون أدنى رعاية لانشغال الأطباء عنهم بسبب رواتبهم المخزية وقلة الرقابة والمحاسبة ؟
وماذا عن العاشق الذي يتأوه حسرة ولا يجد ما يجمعه بمحبوبته تحت سقف واحد , حتى تراكمت العوانس في بيوت الشرفاء؟ وملايين الدولارات من ثروة الوطن تدخل يومياً جيوب كبار المسؤولين وقادة الأمن ومرتزقة النظام وتغذي غريزتهم التي لا تشبع أبداً.
الجواب : الصبر والدعاء والتفاؤل .

الصبر على المصيبة , والدعاء على الطغاة , والتفاؤل بيوم آت قريب تتخلخل فيه أعمدة الطغيان وتتزعزع فيه أركان الظلم والاستبداد .

هذا اليوم آت , إذ لا بد أن ينفجر غضب الأباة الكرام من أبناء الوطن وقد بلغت الإهانة أوجها.

يتبع .

.

.

.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين مؤتمر جامع في قامشلو على انقاض اتفاقيات أربيل ودهوك الثنائية لسنا وسطاء بين الطرفين ( الاتحاد الديموقراطي و المجلس الوطني الكردي ) وليس من شاننا اتفقوا او اختلفوا او تحاصصوا لانهم ببساطة لن يتخلوا عن مصالحهم الحزبية الضيقة ، بل نحن دعاة اجماع قومي ووطني كردي سوري عام حول قضايانا المصيرية ، والتوافق على المهام العاجلة التي…

شادي حاجي لا يخفى على أي متتبع للشأن السياسي أن هناك فرق كبير بين الحوار والتفاوض. فالحوار كما هو معروف هو أسلوب للوصول الى المكاشفة والمصارحة والتعريف بما لدى الطرفٍ الآخر وبالتالي فالحوارات لاتجري بهدف التوصّل إلى اتفاق مع «الآخر»، وليس فيه مكاسب أو تنازلات، بل هو تفاعل معرفي فيه عرض لرأي الذات وطلب لاستيضاح الرأي الآخر دون شرط القبول…

إبراهيم اليوسف باتت تطفو على السطح، في عالم يسوده الالتباس والخلط بين المفاهيم، من جديد، وعلى نحو متفاقم، مصطلحات تُستخدم بمرونة زائفة، ومن بينها تجليات “الشعبوية” أو انعكاساتها وتأثيراتها، التي تحولت إلى أداة خطابية تُمارَس بها السلطة على العقول، انطلاقاً من أصداء قضايا محقة وملحة، لا لتوجيهها نحو النهوض، بل لاستغلالها في تكريس رؤى سطحية قد…

شادي حاجي القضية الكردية في سوريا ليست قضية إدارية تتعلق بتدني مستوى الخدمات وبالفساد الإداري وإعادة توزيع الوظائف الادارية بين المركز وإدارات المناطق المحلية فإذا كان الأمر كذلك لقلنا مع من قال أن المشكلة إدارية والحل يجب أن يكون إدارياً وبالتالي حلها اللامركزية الادارية فالقضية الكردية أعقد من ذلك بكثير فهي قضية شعب يزيد تعداده على ثلاثة ملايين ونصف تقريباً…