مشاهد من قرى الأنفال في كردستان

 

سيامند إبراهيم*
تخرج من مدينة السليمانية باتجاه سد دوكان السياحي, وتكمل مسيرتك نحو (زيوا) التي أصابها التدمير الوحشي المشهور, تتابع السيارة مسيرها وتنعطف إلى إحدى التلال الصغيرة التي تغفو على امتداد الأفق الجميل, تسير السيارة ببطء بعد أن انتهت من صعود آخر تل مزنر ببقايا انقطاع سلاسل السوداوية في تلك الأقصاع, يتوجه السائق ويخبرك بأن هذه القرية كانت من حملات الأنفال, توقف قلبي عندما سمعت, وشاهدت عن تلك الحملات في التلفزيون, والذين راحو ضحايا لها (183 )ألف مواطن كردي

تقف السيارة بهدوء, تترجل منها, تبدأ بخطوات بطيئة في أطلال القرية, تتأمل بقايا القرية من الأخشاب والحجارة المختلة الحجم, تزداد ضربات قلبك, ثمة إغراء في التمتع بمناظر جميلة في تلك الجبال الماسية الحالمة البعيدة,  تتوق إلى معرفة أدق التفاصيل عن دمار هذه القرى التي سوتها طائرات السوخوي و مسحتها عن بكرة أبيها, وجاء الجيش العراقي وساق الرجال والنساء والشيوخ إلى الصحارى العراقية ي الجنوب,  المناظر هنا تنم عن كل شيء حدث في هذه المناطق, جرائم تراجيدية حدثت في هذه القرى الوادعة التي تحولت إلى قفار وكأنها من قرى غابر الزمان, وتتجه نحو الغرب فتجد ثكنة مبنية من الحجارة البيضاء والتي تحولت قليلاً من الأبيض إلى الرمادي, وبينها ثمة مئات الكوات الصغيرة التي كانت تخرج منها مئات البنادق لتطلق الرصاص على القرويين المسالمين, معسكرات وربايا معزولة عن القرى مهمتها فقط قمع أية حركة مقاومة كردية, جبال صمدت في وجه الدكتاتوريات المتعاقبة, دكتاتوريات حاقدة أطلقت نيرانها العاصفة لتحرق الأخضر واليابس, في ظل هذه الممارسات اللاإنسانية والشوفينية.

التفتُّ نحو شمال الطريق واقتربت من بقايا أشجار أصبحت عارية عن أية أوراق خضراء, كانت تظلل طرق هذه القرية في ما مضى, وتتجه مع دليلك إلى بقايا جدار من اللبن الأحمر لتشاهد بقايا مسجد كان في هذه القرية, المسجد أصبح أطلالاً وتناثرت أوراق القرآن الكريم وطار البعض واحترق الجزء الأكبر منه, وهاهو( صدام حسين) يحمل القرآن الكريم بيديه الملوثتين بدم المؤنفلين, ويتباهى بالقرآن في قفص الاتهام ليوهم العالم بأنه من المؤمنين الأتقياء وهو الذي كان يطلق على نفسه بأنه من ذرية حفيد الرسول ( الحسين )وأنه صاحب إيمان قوي.
تتجول بين أطلال القرية, تتمعن في بقايا الأزقة الترابية تجد ثمة بعض من خرز طفلة متناثر بشكل فوضوي, وثمة ملاعق وسكاكين منثورة تحت الأتربة, أهوال وتراجيديا حقيقية تشاهدها وتعيشها في هذه القرى المؤنفلة, سألت السائق عن أهلها فقال لي جاءت السيارات العسكرية واقتادت الأطفال والنساء والشيوخ إلى صحراء العراق الجنوبية الغربية.

وروى لي عشرات القصص المأساوية من قصص الأنفال رجال سيقوا إلى الحرب الإيرانية العراقية عادوا ليجدوا قراهم بقايا حطام وممنوعين حتى عن رؤية ذاك الحطام, وإبادة عوائلهم في نقرة السلمان, شباب في عمر الزهور أعدموا في السجون العراقية.
أتأمل في قمم هذه الجبال, وأنظر إلى القرى البعيدة التي تعاد بنائها من جديد لتنفض عنها غبار القمع والظلم الذي أثقل كاهلها, وكفاح هذا الشعب الذي ضحى بالآلاف من أبنائه ليدافع عن بقائه و وجوده كأمة لها تاريخها ولغتها وأرضها.
————

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف يروي تاريخ الكرد في سوريا حكاية تداخل معقد ومرير بين الصمود والاضطهاد، معكساً تفاعلًا طويل الأمد بين التهميش السياسي والاجتماعي والإصرار على الوجود والهوية. رغم العقود التي حملت سياسات تهجير ممنهجة مثل مشروع الحزام العربي وغيره من سياسات العزل والتغيير الديموغرافي، ظل الكرد راسخين في أرضهم، مدافعين عن ثقافتهم وحقوقهم، وساعين لإقامة سوريا متعددة الثقافات تضمن الكرامة لجميع…

بوتان زيباري في متاهة التاريخ السوري المعاصر، يبرز صراع مركب بين إرادات متشابكة؛ إرادة تسعى لاستعادة كرامة الوطن، وأخرى أسيرة لأوهام السيطرة المطلقة. عند قراءة كتاب “اغتصاب العقل” لجويت إبراهام ماوريتز ميرلو، ندرك كيف تُستخدم سيكولوجيا التحكم في الفكر وتشويه العقل كأدوات مركزية في توجيه الشعوب، وبالأخص في حالة سوريا حيث تتقاطع المأساة مع العبث السياسي. قد يبدو الحديث…

عبدالرحمن كلو على مدارِ السنواتِ السابِقةِ، وفي مرحلةِ النظامِ السابِقِ، كان العديدُ من الوطنيينَ والشرفاءِ الكوردِ من خارجِ نطاقِ منظومةِ حزبِ العمالِ الكوردستانيِّ (ب ك ك) ومن خارجِ دائرةِ المجلسِ الوطنيِّ الكورديِّ، يُطالبونَ بحمايةٍ دوليةٍ لعفرينَ والمناطقِ الأخرى التي تخضعُ للاحتلالِ التركيِّ. هذهِ المطالبُ جاءتْ كردِّ فعلٍ على ما كان يجري في تلكَ المناطقِ من ممارساتٍ إرهابيةٍ تهدفُ إلى التغييرِ…

فرحان كلش الأسئلة الأكثر إلحاحاً في الراهن الزماني، حول ما ولدته وأفرزته الثورة السورية، تكمن في إمكانية الربط المعرفي بين الثورة كخلق جماهيري والسلطة كناتج ثوروي، إذ يمكننا أن نلقي أسئلتنا في حلقة ضوابط تتعلق بالنشوء والفناء الثوري، هل ما نشهده اليوم من وجود إدارة سياسية في دمشق ناتج موضوعي لما شهدته الثورة السورية، أم هذا تدحرج لفكرة الالتفاف على…