زمكانية الكلمة

إبراهيم اليوسف

لقد بات من البدهيات المسلَّم بها، أن أية كلمة، لا يمكن أن تخرج عن فضائها الزَّمكاني، الذي توثق إليه، وترتبط، وتتفاعل معه، لئلا تفقد دلالاتها وقيمتها، بعيداً عن سياقها المطلوب، وإن أية محاولة خارج هذه البدهية، تؤدَّي إلى بتسرة هذه الكلمة وتشويهها.

والكلمة، هنا، الموقف، يمكن النظر إليها، وفق هذا التصوُّر، ضمن هذين البعدين: زمانياً، ومكانياً، محافظة على جملة المعاني التي ترمي إليها، بيد أنها وإن كانت لا تتخلى عن معناها المعجمي، إلا أنها تحافظ في الوقت نفسه، على سمتين، أولاهما السيرورة، والثانية الانزياح، ما يجعل هذه الأخيرة تنسف الأولى، في الكثير من الحالات، الأمر الذي انتبه إليه الفقهاء والمشرِّعون، عندما عاينوا طبيعة البرهة، وراعوها، فكانت للبرهة المعيشة سطوتُها، فحالُ السفر غيرُ حال الاستقرار، وحال الحرب غير حال السلم، وحال المرض غير حال المعافاة، وحال الوفرة غير حال الجدب والقحط، وقائمة المتناقضات تطول، وهو ما ينتمي إلى جوهر سنة فهم الحياة، بأكثر ما ينتمي إلى رامة الجمود، وكان غوته خير من عبر عن ذلك بقوله” النظرية رمادية اللون، لكن شجرة الحياة خضراء إلى  الأبد”.
إن  الدافع إلى مثل هذه المقدِّمة، قد يفسر، على نحو واضح، حين التوقف أمام لجوء بعضهم إلى توصيفات الثورات الشعبية التي تتم من حولنا، محاولين إخضاعها لأحكام قيمة، لدواع تتعلق بالانطلاق تحت تثير سطوة الاستبداد، في إهاب فلسفة معينة، يتم تناولها على نحو مدرسي ٍّ، ببغاويٍّ، ليكون إعادة إنتاج لأدوات الاستبداد، معرفياً، وغرض ذلك لن يكون أبعد من زرع الهلع، والرعب، في النفوس، وتثبيط الهمم، لاسيما عندما يتم الإدلاء بأمثلة هائلة، من دليل الثورات، وبطون الكتب، على أنها-أي الثورات- تُثبط،ولا عمر لها، وسوى ذلك، والتثبيط هنا، يمكن توصيفه، مدرسيَّاً، وعلى مقاعد الأكاديميات،بعيداً عن ميدانية رحى الحرب على البشر، حين يسلط الضوء، في غير مكانه وزمانه، على حقيقة البذرة المضادة التي تحملها كل ثورة في صلبها، وسرعان ما تتنامى بحكم عامل صيرورة الزَّمان، متسلقة على أكتاف الثورة، حاملة رايتها، ورافعة سيفها، لكي تنقضَّ عليها، فتحرِّفها عن مسارها الصَّحيح، والأمثلة هنا أكثر من أن تذكر.

 إن إطلاق مثل هذه المفاهيم، في أي ملتقىً، يجب أن يستعاض عنه بمدَّ الثورة بالنبض، ودفق الديمومة، والاستمرارية، ليكون مرآة لها، ودافعاً، لا كابحاً، معوِّقاً، مؤدياً إلى خور الهمم، لاسيما عندما يتمُّ الإشادة  بالارتكاس، والرهان على وصفة أثبتت بالرؤى نفسها، خطل الاعتماد عليها، وهي المجرَّبة، غير الناجعة، والمدفوع ثمنها، دماً، وانكساراً، ودماراً.

إن الخديج الذي سرعان ما يفقد حياته، وهو في حاضنته، بعد قطع كهرباء الحياة عنه، ما فائدته-وهو الأحوج إلى الأوكسجين- من مليارات ذبذبات التنظير،مادام ثمة شعرة، فحسب، بين الزوال والنجاة، وإن كان طرح الاستبداد على نطاق البحث، وتدويل خطورته، وكشف عوراته، على نحو علني، ليتم لأول مرة، وهوموقف يستدعي التثمين، ويشكل مسماراً في نعش دولة الظلم، حتى وإن كان هناك، من سينحاز إلى رؤية الجاني، متصامماً عن نداء الحياة، لدى ذلك الطفل، النداء الذي تحتاج قراءة ذبذباته إلى ضمير، يرتقي إلى فهم حنوِّأمه، وأهله، وعبراتهم، متروكين تحت ألسنة لهيب النار، ووعيد بتر شريان الحياة نفسها..!

elyousef@gmail.com  

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…

خليل مصطفى مِنْ أقوال الشيخ الدكتور أحمد عبده عوض (أُستاذ جامعي وداعية إسلامي): ( الطَّلَبُ يحتاجُ إلى طَالِب ، والطَّالِبُ يحتاجُ إلى إرادة قادرة على تحقيق حاجات كثيرة ). مقدمة: 1 ــ لا يختلف عاقلان على أن شعوب الأُمَّة السُّورية قد لاقت من حكام دولتهم (طيلة 70 عاماً الماضية) من مرارات الظلم والجور والتَّعسف والحرمان، ما لم تتلقاه شعوب أية…

أحمد خليف الشباب السوري اليوم يحمل على عاتقه مسؤولية بناء المستقبل، بعد أن أصبح الوطن على أعتاب مرحلة جديدة من التغيير والإصلاح. جيل الثورة، الذي واجه تحديات الحرب وتحمل أعباءها، ليس مجرد شاهد على الأحداث، بل هو شريك أساسي في صنع هذا المستقبل، سواء في السياسة أو في الاقتصاد. الحكومة الجديدة، التي تسعى جاهدة لفتح أبواب التغيير وإعادة بناء الوطن…