لم يكن الأمر كذلك عزيزي هوشنك

فرمان صالح بونجق

كانت إحدى لحظات الحقيقة الناصعة المشرقة والشفافة إلى أبعد حدودها، وكما لم يتصورها بشر من ذي قبل ، حقيقة أننا تركنا خلفنا كل أمهات المدن ، كتونس وإسطانبول وأنقرة وآمد ونصيبين الجميلة ، التي تحدرنا سليطتها باتجاه قامشلو ، والتي مااستطاع الأشرار انتزاعها من جوفنا على مدى ربع قرن من الغربة والتشرد ، حقيقة أننا إلتحمنا مع جامع قاسمو منذ قراية أربعة أشهر ، ليس لأنه يمثل رمزا دينيا فحسب ، وإنما لأنه جامع قاسمو الذي يرمز لأقدس مقدساتنا الأخرى ، شهدائنا الذين سُجّوا وكُفّنوا وشُيّعوا من بوابته المقدسة ، فاعلم إن كنت لاتعلم .
كانت إحدى لحظات الحقيقة التي ما بعدها حقيقة ، حين مالت علينا الشمس بجبهتها في آخر جمعة من الجمع المباركة ، فالتحم صهد السماء بصهد الأرض ، وبدأت أجسادنا تتبخر رويدا رويدا إلى العلى ، بينما كان الرجل البخاخ يرطب أجسادنا برذاذ الحرية ، لعلنا نستعيد بعضا من أجسادنا المتبخرة ، حقيقة أن الشمس أطلقت علينا ما تبقى من شرورها ، ولكننا لم نسألها أو نتوسل إليها أن تحجب رمضاءها عن عباد الله الصالحين المسالمين ، الهاتفين بالعدالة والحرية والكرامة ، بينما كنت أنت تجلس على مقعدك الوثير أمام الكاميرات ، وتحت بخاخ من نوع آخر يبعث في جسدك البرودة والاسترخاء ، فاعلم بأنك كنت لاتعلم .
 
إحدى لحظات الحقيقة الني غُيّبت عنك ، أننا تدفقنا شرقا باتجاه مركز المدينة ، بينما الآخرون الذبن صببت الأفضال عليهم بأنهم غيّروا وجه المدينة ، منذ أول ظهور لهم ، كانوا يدبرون غربا باتجاه دوار الهلالية ، والذي تعرفه جيدا ، وقلت عنه في معرض حديثك : بأنه على مرمى نصف حجر (إستهزاءً) .

وعقبت : بأن المتظاهرين يسلكون هذه الطريق منذ أربعة أشهر ، فما الجدوى ؟.
 
وهنا ..

وفي هذا المقام ، لا مناص من القول : بأن كل شبر مربع (وحدة قياس جديدة) من إسفلت هذه الطريق ، كان من الممكن أن يسقط فيه شهيد ، وخاصة أننا كنا في الأيام الأُولى من عمر الثورة ، عندما كان عددنا لايتجاوز ألفين من الفتيان الشباب ، والبعض من الكهول المتهدلين أمثالي .

وهذا لكي تعلم ما كنت لا تعلم .
 
لحظة الحقيقة الحاسمة في تلك الظهيرة الحارقة ، حين وقفنا وجهاً لوجه نتقاسم الشارع ، نحن المتدفقون باتجاه الشرق من جهة ، وقوى السلطة وشبيحتها في الجهة الأخرى .

وهنا أستميحك عذراً ، فلا بد من التوقف قليلاً لأشكر الله وأحمده بأن أتاح لي الفرصة لرؤية وجوه الشبيحة وعن قرب .

كانوا مدججين بالأسلحة ، وكنا مدججين بأصواتنا ، تساقطت علينا رشقة حجارة ، ثم تقيأت علينا فوهات الموت غازاً كريهاً ، كنت قد تنشقت بعضه في نصيبين إبان احتجاجات نوروز ، ولكن غازنا الذي هنا لم يكن كغازنا الذي هناك ، فقد كان الغاز الذي استهدفنا هنا كان حارقاً جداً وكان كثيفاً ، وكان ملوناً ، فكان منه الأبيض والأحمر والأصفر البرتقالي .

وسقط الجرحى ، وأطبق علينا الاختناق ،
وعندما فقدنا كل حيلة في المواجهة السلمية من جانبنا ، إنسحبنا ، ولكننا لم نترك جرحانا ومصابينا على قارعة الطريق ، كانت هذه الجولة الأولى من المواجهة ، على تخوم مفرق الحسكة ، في حين كان الآخرون لايزالون بمحاذاة دوار الهلالبة .
 
الحقيقة التي لايمكن لأي كان التنصل منها : أن الآخرين الذين تحدثت أنت عنهم ، وتحدثت أنا عنهم ، هم أصدقائي وأشقائي ورفاقي في آن ، لأننا شركاء في كل ما حدث ، وفي كل ما سيحدث ، بدءاً من الغاز الذي تنشقناه هنا وهناك ، وصولاً إلى الدم المراق .

وما بينهما أعظم .

عزيزي ..

كنت قد هجرت قلمي اللئيم، منذ شهور أربعة، ولكنه كعادته يتمرد عليّ أحيانا.

دمت بخير

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

حوران حم واقع يصرخ بالفوضى في مشهد يعكس عمق الأزمة البنيوية التي تعيشها الحركة الكوردية في سوريا، تتوالى المبادرات التي تُعلن عن تشكيل وفود تفاوضية موسعة، تضم عشرات الأحزاب والتنظيمات، تحت مسمى التمثيل القومي. غير أن هذا التضخم في عدد المكونات لا يعكس بالضرورة تعددية سياسية صحية، بل يكشف عن حالة من التشتت والعجز عن إنتاج رؤية موحدة وفاعلة….

مصطفى منيغ/تطوان باقة ورد مهداة من بساتين تطوان ، إلى عراقية كردية ملهمة كل فنان ، مُلحِّناً ما يطرب على نهج زرياب قلب كل مخلص لتخليص ما يترقب تخليصه من تطاول أي شيطان ، على أرض الخير العميم وزرع نَضِر على الدوام وجنس لطيف من أشرف حسان ، بنظرة حلال تداوى أرواحا من داء وحدة كل عاشق للحياة العائلية المتماسكة…

خالد حسو لم تُكتب الحقوق يومًا على أوراق الهبات، ولا وُزّعت بعدلٍ على موائد الأقوياء. الحقوقُ لا تُوهب، بل تُنتزع. تُنتزع بالصوت، بالكلمة، بالفعل، وبالإيمان الذي لا يلين. نحنُ الكُرد، أبناء الجبال والريح، لم نكن يومًا طارئين على هذه الأرض، ولا عابرين في ليلِ الخرائط. نحن الأصل، نحن الجذر، نحن الذين إذا تحدّثوا عن النكبات كان لحنُها لغتنا،…

صلاح عمر   في كل مرة تلوح فيها تباشير الأمل في أفق القضية الكردية في كردستانسوريا، تظهر إلى العلن أصوات مأزومة، تأبى إلا أن تُعيدنا إلى الوراء، أصوات لا تُتقن سوى صناعة الضجيج في وجه أي محاولة صادقة للمّ شمل البيت الكردي الممزق. الحقد، يا سادة، ليس موقفًا سياسيًا، بل مرض نفسي. الحقود هو إنسان معتقل من الداخل، سجين قفصه…