وخرج السوريون هذه الجمعة أيضاً كما كان مؤملاً منهم الخروج، وفاء للينابيع التي اصطبغت بأحمر اللون من أقصى الشمال إلى أقصى خاصرة الجنوب، فمن تنكر لروعة الينبوع ونقاء سريرته حكم على نفسه بالصدي والعطش، والينابيع الجميلة هي التي تستيقظ كثيراً، وتوقظ العطاشى من موتهم، وبهوت أيامهم.
يوم لا خوفَ ولا وجلَ ولا توجسَ فيه، يوم باعث للقلق الأبي، وليس القلق الصادم الكتوم، الكابح، يومٌ طاردٌ للنوم في المآقي، يوم أحمر أحمر، ويقول بعض السوريين في قرارة أنفسهم، وفي أحيان كثيرة جهاراً وفي وسط الشارع: يا ليته ما أتى!! أو يا ليته جاء أبكر من اليوم!!
في لحظة بيضاء أو حمراء قرروا أن يحملوا صخرتهم، ويتوجهوا نحو ذرا الجبال..
الجبال التي حسدت قامات السوريين التي ما انحنت رغم الكلفة الباهظة، بل يوماً فيوم تتورد وجناتهم، وتتجمل أغانيهم، وترقص عيونهم للنجمة الباذخة، وللقمر الذي ودّع المرض والاصفرار والدجى، قمرٌ يغني مواويل العشق..
لهم للعاشقين الآبدين، رغم الآلام التي لحقت به طيلة أربعة أشهر أو أربعة قرون، لم يعد الزمن مهماً وذا إيقاع في رتابة حياة هؤلاء، لم يعد يحمل كل هذه الإشراقة بعد طول غياب وتغييب.
رتابة الحياة، الخوف من الصديق أو حتى الشقيق، أو الخوف من الحيطان والشارع والأشجار الواقفة، ونسمات الهواء والشروق والغروب، وتصوُّر أن كل المحيط هو إما مخبر أو مشروع مخبر، ” هسسسسسسسسس، اسكتوا وطوا صوتكم للحيطان آدان”
هذا الخوف، هذه المصطلح الحوشي والقذر انهارت جدرانه، وتهدمت قلاعه، ولم هذا الكائن السوري خائفاً لأن تعوّد عينيه، وتعوّد أصابعه من تلمّس لزوجة الأحمر قتل الخوف في قلبه.
رغم معرفة الذين يخرجون في كل يوم وليلة أن ثمن الخروج باهظ، يتأنق السوري، يحلق ذقنه، يرتدي أجمل الثياب، يتعطر، وكأنه ذاهب إلى موعد الغرام مع المحبوبة التي قصفت الظروف بحضورهما، فغاب قلباهما عن العناق عنوة لدهور سحيقة، وصارا لا يكحلان العيون إلا بعد طول ترمُّد ودموع بعد أن خلت الدار من الأهل والخلان.
البارحة خرج السوريون دون أن يؤازر خروجهم أية جهة “معادية- متآمرة”، أو تحمي ظهورهم المكشوفة لإخوتهم ” الأشقاء” من أصلاب آبائهم وأمهاتهم، ودون أن تلعب مصالح أي دول تشجيعاً لهم ليخرجوا.
هل السوريون خفيفو عقل حتى يستمعوا لهذه الجهة وتلك؟؟ ويعلمون أن الخروج ربما تأمّن على القدمين الواثقتين، لكن العودة ربما تحققت إلى المنزل ولقاء الأم أو الأولاد أو الحبيبة ولكن على الأكف التي تغتلي ناراً، وهي ترى الثقوب الدافقة ينبوعاً أحمر وهو أو وهي تروي عروق الجسد المسجى، أو الأرض المسجاة!!
خرجوا دون أن يستمعوا لنصائح سيد الجامعة الجديد، ولا عداه من السادة التي كثرت هذه الأيام، من المنابر ومحابر المحللين ” الفرسان” ومن مقابر الإخوة..
الأعداء.
أيها الشعب الخارج من منزله ليقارع الموت، وينتصر عليه، أيها السوري المطيّب بالعطر قبل قليل، والمطيب بزكي الدماء بعد قليل…
أيها السوري العظيم، كم ربيعاً يحلم أن تكون عنوان ديوان شعره وقصائده الخضراء النازفة؟؟
كم أفتخر بسوريتي الآن أكثر من أي وقت!!!
كم أنا عظيم، أنا السوري من عين ديوار وحتى درعا المحطة!!