احصاء 1962 : اغتيال الحقيقة بسموم الايدولوجيات البائدة !

بسام مصطفى

لم يكن يوم الخامس من اكتوبر كغيره من الايام و لم يكن عام 1962 كغيره من الاعوام .

كان ذلك اليوم  اسوأ بكثير مما سبقه اذ قدر له –في بلاد تحدد فيها الايدولوجية طريقة حياتك من يوم الميلاد الى الممات و تحصى انفاسك ايضا- ان يكون يوما قاسيا و متميزا في ظلمه حيث شهد جريمة اخرى من الجرائم التي لا تعد و لا تحصى بحق الكرد .

صبيحة ذلك اليوم ، وجد آلاف الاكراد المؤلفة نفسهم ،فجاءة ، معلقين في الهواء ، غرباء ، اجانب ، مكتومين لا مكان لهم في قيود و سجلات الدولة .

كان سهلا على اصحاب العقلية المتحجرة و معتنقي ايدولوجية البعث الاقصائية و الشوفينية و العنصرية ان يفعلوا ما فعلوا و بخاصة لان الضحايا كانوا هذه المرة كما في كل مرة من الكرد الذين لا اصدقاء لهم سوى الجبال و ليس لهم من نصير او ظهير الا الريح …

في ذلك اليوم ، نام الآلاف  من الكرد مواطنين ليستيقظوا مع صياح ديكتهم في الصباح الباكر و يجدوا انفسهم و قد تحولوا بقدرة البعث الى ”  اجانب ” غدر بهم من اشقاء جعلوا عميانا بفضل افكار عفالقة الجحيم البعثي المشهود لهم بالغدر و الخيانة و حبك المؤامرات و قتل كل ما هو جميل و بسيط !

في يوم الشؤم ذاك ، يوم الانتصار البعثي الصارخ اذ تنفست ايدولوجية الحزب ” القائد” ” امل الجماهير العربية من المحيط الى الخليج ” الصعداء و قتلت امال الكرد البسطاء الذين لا يريدون شيئا اكثر من ان يدخنوا تبغهم الشهي و هم يتحدثون بلغتهم الكردية الى بعضهم البعض لئلا تنحرد دجاجاتهم و تغادر المكان ! هل من اثم في هذا ؟ .

في اليوم ذاته ، كان الشمال برمته يختنق تحت سياط الفكر المؤدلج و يغمى عليه من هول الجريمة و بشاعتها .

كان يوم الكذب على التاريخ و الجغرافية و الاف السنين من الاخوة و الصداقة .

باختصار ، كانت الحقيقة البسيطة و الجميلة تغتال يومها و تطحن في طاحونة الهدم البعثي : ماذا يحدث لو اننا اجترينا معا عشب السماء و تنفسنا الريح هناك .

اي وحدة و حرية كانتا ستهددان اذا ما توحدنا مع غبارنا الذهبي و شممنا الارض كحبيبة ؟…

” ان الرؤوس الكبيرة في العاصمة قد خططت لذلك ” .

اليوم في الذكرى الرابعة و الاربعين للحدث – المأساة اتذكر هذا القول .

و بالفعل كان من خطط بارعا و قاسيا و عديم الرحمة الى اقصى الحدود … و الجريمة كم كانت مؤلمة حين بدأت ككرة ثلجية تكبر كلما تدحرج الزمن الفارغ في عبث البعث و دهاليز ايدولوجيته المظلمة .

و هكذا ، تضخم عدد من اعتبروا ” اجانب ” في قاموس البعث و اصبح يقارب الربع مليون شخص .

كلهم كرد سوريون .

و هاجر الاف الاكراد الى الخارج هربا من جحيم البعث و شعاراته التي لا تفارقك و انت في المرحاض ، هذه الهجرة التي اقترحها محمد طلب هلال في تقريره السىء الصيت الذي طبقه تلامذة البعث خطوة فخطوة .

و اكثر من هذا و ذاك ، فيما يخص مأساة ” الاجانب ” من ضحايا الاحصاء الظالم ، الشعور العميق بالغربة و الاغتراب .

لان مملكة البعث و اهل الضاد ضاقت على كرد كل ما اقترفوه و مصيبتهم الكبرى و الوحيدة انهم خلقوا اكرادا لا اكثر و لا اقل .

منذ 1962 حين اجري الاحصاء المشار اليه ، نما شعور عميق بالغربة في اعماق كل كردي حتى لدن اولئك الذين نجوا من تعسف البعث وحصلوا على الجنسية السورية  لانهم نجوابفعل الصدفة و الصدفة فقط .

و ربما ان هذه الغربة و هذا الشعور بالاغتراب مؤلم بما لا يقاس مقارنة مع نتائج الجريمة الاخرى العديدة .

فكم صعب ان ان تكون غريبا في بيتك و بلدك …ان تصبح ” اجنبيا ” في وطنك ، حيث الدم الذي اريق قربانا و فداء للاخوة و الحب و الحياة …

في الذكرى السنوية ال44 للاحصاء – المأساة ، كان جميلا ان يشترك عرب سوريون جنبا الى جنب مع اخوتهم الكرد للتنديد بهذا الاجراء الشوفيني الظالم و التعبير عن تضامنهم و وحدتهم و اصرارهم على انجاز التغيير الديمقراطي و التخلص من مخالب الحكم الدكتاتوري  الفاشي الى الابد .

و بنفس الوقت ، كان عاديا و متوقعا ما قام به ذئاب السلطة و اجهزتها الامنية حين منعت المتظاهرين من القيام يالاعتصام السلمي و فرقتهم بالضرب بالهراوات و اهانتهم بشتى الاساليب و الوسائل و قامت بتعذيب المعتقلين بضراوة و قسوة لا مثيل لها قبل ان تطلق سراحهم فيما بعد و كأنها تلقنهم درسا بهذه الطريقة المعيبة و البشعة و لكنها تنسى او تتناسى انها هي ايضا على وشك ان تتلقى درسا اشد قسوة بكثير…و سيرى اصحاب العقلية البائدة ، الذين ارتكبوا الجريمة و قاموا بعملهم دون وازع من ضميرعما قريب موت افكارهم و مشاريعهم و احلامهم و اهدافهم و شعاراتهم الواحد تلو الاخر كما سبق و حدث لاخوة لهم في الظلم و الفكر !

اكد ما حدث في الاعتصام ان نظاما كهذا مازال يعيش في عالم من نسج خياله و كأنه يحيا وحيدا على كوكب لا يشبه هذا الذي نحيا عليه.

و فعلت ما كانت ستفعله قبل اربعين عاما غير آبهة بما حدث و يحدث من متغيرات و تطورات و مستجدات في عصرنا عصر الاعلام و السرعة اذ ان العالم الذي اصبح قرية صغيرة يصبح يوما فيوما بيتا صغيرا.

فاين البعث من كل هذه المتغيرات ؟

قريبا …قريبا جدا ، سيدرك الظلمة بعد فوات الاوان ان هذه التغييرات  الكبرى لم تكن لعب اطفال صغار ! سيكون الوقت حينها ببساطة شديدة قد فات …

… و سيعود الشمال طيبا كما كان دوما …بسيطا ينحني للعابرين و ينثر الطيب في كل مكان .

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

شادي حاجي في السنوات الأخيرة، بات من الصعب تجاهل التحوّل المتسارع في نبرة الخطاب العام حول العالم . فالعنصرية والكراهية والتحريض عليهما لم تعودا مجرّد ظواهر هامشية تتسلل من أطراف المجتمع، بل بدأت تتحول، في أكثر الدول ديمقراطية ولم يعد ينحصر في دول الشرق الأوسط ( سوريا . لبنان – العراق – تركيا – ايران وو .. نموذجاً ) وحدها…

ياسر بادلي ليس اختيارُ الرئيس العراقيّ السابق، برهم صالح، مفوّضاً سامياً لشؤون اللاجئين حدثاً عابراً يمرّ على أطراف الأخبار؛ بل هو لحظةٌ ينهضُ فيها تاريخُ شعبٍ كامل ليشهد أن الأمم التي صُنعت من الألم تستطيع أن تكتب للإنسانيّة فصلاً جديداً من الرجاء. فالمسألة ليست منصباً جديداً فحسب… إنه اعترافٌ عالميّ بأنّ الكورد، الذين حملوا قروناً من الاضطهاد والتهجير، ما زالوا…

المحامي عبدالرحمن محمد   تتواصل فصول المسرحية التركية وسياساتها القذرة في الانكار والنفي للوجود التاريخي للشعب الكوردي على ارضه كوردستان، ومحاولاتها المستمرة لالغاء ومحو كلمتي كورد وكوردستان بوصفهما عنوانا للهوية القومية الكوردية والوطنية الكوردستانية من القاموس السياسي والحقوقي والجغرافي الدولي، سواء على جغرافيا كوردستان او على مستوى العالم. تارة يتم ذلك بحجة وذريعة الدين (الاسلام)، وتارة اخرى باسم الاندماج والاخوة،…

  إبراهيم اليوسف وصلتني صباح اليوم رسالة من شاعرة سورية قالت فيها إنها طالما رأتني وطنياً لكنها تجدني أخرج عن ذلك، أحياناً. رددت عليها: صديقتي، وما الذي بدر مني بما يجعلك ترين وطنيتي منقوصة؟ قالت: أنت من أوائل الناس الذين وقفوا ضد ظلم نظام البعث والأسد. قلت لها: ألا ترينني الآن أقف أيضاً ضد ظلم السلطة المفروضة- إقليمياً ودولياً لا…