في الحالتين، نجد أنفسنا إزاء ما هو غفل من الاسم، وكما هي المباغتات الكبرى “ثورات بركانية كامنة غير معايَنة وهي في الجوار أو الوسط المجتمعي”: سلطة تعمل بمبدأ العماء “الكاوس” وتقدم نذوراً فولكلورية من الداخل أو برتوكولية تتعدى حدودها كنظام مسجل باسمه الخاص مع الخارج، بزعامة ميتاكاريزمية في قلب الميديا، وهي مفارقة تضعنا في متن تاريخ يتنكر لاسمه لانفصاله عما هو أرضي ومجتمعي أو قانون تغيره، في مناسبات تصطبغ بما هو قومي وشعبوي ووطني كرنفالي على أشد ما يكون من الكرنفالية الصاخبة دعاية للسلطة ومن يتمرس وراءها، وهي تشكل حجاباً مانعاً يحول دون سماع أصوات “معذبي الأرض” وحركة التاريخ، ومثقف تتنوع أسماؤه أو ألقابه أو مواقعه الاحترابية مع أمثاله أو موضوعات لم تدخر السلطة عينها جهداً في تمييعها إلى درجة أن وقوف أي مثقف في المجمل، وعبر الممتلَك منابرياً أو المحتكَر سلطوياً، على أي ظاهرة ثقافية، يحيله إلى كائن مخبري، ظلي، مفارق للحياة التي تتحرك خارج “عنق الزجاجة” المعطى له، وكيف أنه كان يتحرك في عقد ندواته المتعددة العناوين في إهاب سلطوي، يلعب استثناءُ السلطة المضيفة ولو في منحى خطابي دبلوماسي دوراً لعوباً في توقير شبح السلطة وهو يجول في ذهن المثقف في هذا البلد العربي أو ذاك .
ربما نكون إزاء ما أسمّيه ب”يوتوبيا المثقف”: عين خفائه القسري بحافز ذاتي أو سبب فاعل منسوب إليه، وعين تراقبه ولا تسهو عنه لحظة واحدة، وهي تحثه على رسم خطوطه وتمثّل مشاريعه بعيداً عن الجاري أصولاً .
وفي حمى الأحداث المباغتة للسلطة، والتي أرادتها سلطةَ تاريخ ومجتمع آهلين بشعب حي هذه المرة، كان ثمة تكوين تاريخ ثقافي من نوع آخر، ليكون العنف السلطوي والدامي ضد المحتجين والثائرين متناسباً والصورة التي تتبصر بها السلطة ذاتها في مرآتها العقائدية، صورة أكثر مصداقية من المرآة، ولعل عملية إرجاعها إلى صوابها إلى مواجهتها بصورتها الفعلية تطلبت وقتاً اختلف من نظام إلى آخر، وقتاً لما يزل شغالاً بالعنف الدامي والمميت تعبيراً سلطوياً عن أن ثمة خللاً بنيوياً في القاعدة يجب احتواؤه: ترويضه أو تأهيله وفق هوى سلطوي، وليس لأن ثمة خطأ بنيوياً أُصّل أساساً ليكون حاضنة سلطة وعلامة تشكيلها، وللمثقف حكاياته الكبرى في تصور هذا العنف وتعبيره المتقطع عما يكونه مواقعياً، إلى درجة أن طابع تنظيره لحيوية هذا الشارع الطويل والمتعرج والمتفجر قياماتياً نوعاً ما، لا يخفي حداثته الطارئة، مناورته على نفسه وهو ينظر كما لو أنه – فيما يسمّيه ثورة شعبية- لم يكن الآخر الغريب لنفسه أو عليها حتى الأمس القريب، وأنا أسمّي هنا، مثلاً “عزمي بشارة” الذي تفتقت قريحته وهو يستشرف حركية العنف الشارعي ويرصد وقائعه باعتباره الناطق بلسان حالها، أو حين نتذكر طيب تيزيني وحتى برهان غليون وغيرهم، وكيف باتوا على صدام مباشر ليس مع السلطة القائمة وعنفها الشارعي هذه المرة، وإنما مع أفكارهم كما لو أنهم يعيشون ولادة مغايرة وفق شروط تتجاوب مع حركية الشارع، وما فيها من شعاراتية ظرفية مستحدثة تحيله من خاصية المثقف الرزين نزيل سكن خاص إلى الثائر على وضعه .
أضف إلى ذلك أن الوسائطية التي نعيشها عبر الشاشة الصغيرة هنا وهناك، أصابت غالبية المثقفين العرب بحبسة نفسية وعضوية غير محسوبة، نظراً لأنهم اعتادوا كتابة مقدمات وتدبيج تصورات تستغرق وقتاً طويلاً، وبالتالي، شكل الجاري بميسمه الثوري العربي غير المتوقع، تحدياً يتطلب من غالبية المثقفين العرب وهم محاصَرون بتاريخهم ذي الانزياحات الكثيرة في ذاتيتها وسلطويتها الخادعة، زمناً ليس بالهين الخروج من قمقمه أو التحرر من غوايته، ويحتاجون تدريباً خاصاً وتأهيلاً مغايراً تماماً ليدخلوا في صلب الموضوع الساخن، حتى يصغى إليهم أو تتم مشاهدتهم، أو ليؤكّدوا سمة الجماهيرية في ما يتمثلونه وقد تنكروا لها كثيراً .
ربما يعني ذلك أن السلطة التي تقاوم الثائرين عليها بشراسة كما هي نمطية تاريخها المريب والمرعب والسفلي، ولا تستسلم بقانون التغير التاريخي الأكبر منها بيسر كما هو المرئي فيها، وأن المثقف العربي في غالبية أسمائه ومسمياته، يفرض عليه ما بوغت به تحرراً متعدداً: من فتنة سلطة لا يخفي تأثره بها واستئناسه بمقولاتها، أو وهو على النقيض منها كما لو أنه جبهة رحالة تعنيه بعيداً عن تجسيد فعلي، شارعي، ومن ذاته إزاء هذا الانخطاف الذاتي الذي اختزل فيه قواه وهي ليست نابعة منه وحده، ومقابل الذين استخف بهم بوصفهم المعين الرئيس في قراءة التاريخ وتحولاته: أي الشعب، إنها يوتوبيا مكلفة، باعتبارها، وللمرة الأولى، يجد نفسه وقد جال طويلاً في تاريخ كثير التجريد، وهو يهبط على أرض حقيقية ويعيش حراكاً شعبياً حقيقياً يهديه الصراط المستقيم .
* باحث من سوريا