فقد حكم على نفسه وعلى نظامه بالرحيل على منوال من سبقه, لكن على شكل كاريكاتوري ومسخ كما يبدو.
فلم يتعظ من تجارب سابقيه ولم يتعلم من أخطائهم أن يتجنب مصيرهم الفاجع, أو على الأقل لم يتعلم أن يتخذ لنفسه أسلوباً أصيلاً في اختيار مصيره أو شكلاً أرقى وأنبل لنهايته.
وفي هذه الحال قد لا يكترث التاريخ يوماً بنهايته لأنها ستفتقر إلى التفرد والتميز والابتكار, وستبدو تكراراً مملاً وغير مثير لتجارب الآخرين.
وهذه لا تعدّ بالنسبة إليه نعمة بل نقمة ظلت تلاحقه طوال سنين حكمه, وظلّ هو يعاني من الشعور الداخلي المزمن بأنه لم يكن في يوم من الأيام جديراً بهذه المكانة وبهذا الدور, إنما الأقدار هي التي قادته إليها.
ولهذا ما انفك يجاهد على الدوام ضد هذا الشعور ليثبت العكس للآخرين, إنه القائد الضرورة الذي اتخذت منه الحكمة التاريخية غاية لها.
يؤشر الخطاب على أن النظام استنفد تماماً قدرته الواقعية على التواصل والحوار العقلاني مع الشارع, ويبرهن على أن النظام لا يملك سوى لغة الإدانة والبطش في التعاطي مع مطالب المحتجين.
فلم يأت بجديد, حتى من ناحية الشكل, ناهيكم بالمضمون, سوى تلك الترهات البلاغية والتفاصح المعتاد الذي لا طائل من ورائه, وقد ملّت منه الأسماع من قبل.
جلّ الخطاب قام على أمر واحد وتمحور حوله, هو هو, شيطنة الشعب والمتظاهرين والمحتجين وتأثيمهم, وبالمقابل تنزيه السلطة وتبرئة ساحتها وعدّها الصراط المستقيم, ورمز العدل والصواب, وكل الإطناب الباقي لم يكن سوى زخرفة كلامية و تلوينات بلاغية وحواشي لإكمال النص..
علاوة على ما سبق, ثمة استهتار فاضح في سلوك النظام ووعيه بتضحيات الناس ودمائهم.
وقد برهن على هذا الاستهتار منذ بداية الحدث السوري وحتى الخطاب الأخير.
إذ اعتقد, ولم يزل, أنه يمكن إلهاء الشعب وإرضائه بعد كل هذا القتل والقمع المفرط والمهانات بمجرد الكلام الغامض عن الإصلاح والترويج لشعاراته التسويفية.
أليس في هذا استعلاء وتحقير عميق لوعي السوريين, ولا مبالاة بشعورهم الإنساني؟
إن مأساة النظام في هذه اللحظة تكمن في عدم ثقته بوعي وإرادة السوريين وقدرتهم على التغيير, وهو ما زال متوهماً, بعد كل هذا النزيف غير المبرر والخراب الذي أحدثته آلة قمعه, أن الأمور على ما يرام.
فهو يطالب الشعب بالاستسلام والركون والخنوع والكفّ عن الاحتجاج لأنه أبعد ما يكون عن الثقة بأنّ السوريين قادرون على التغيير وعازمون على صناعة تاريخهم بأنفسهم.
وهم لا يحتاجون بعد الآن إلى أيّة وصاية سامية على مصيرهم.
خطاب سلطة مأزومة بامتياز, معاندة ومكابرة, وتأبى الاعتراف من هذا الموقع بأزمتها.
خطاب يفتقر للجرأة والشجاعة اللازمتين في مثل هذه الأحوال, ولا ينقصه شيء كي يكون خطاباً سياسياً سوى منطق واضح يقرّ بالأزمة بدلاً من البلاغة الغامضة والمراوغة والمزايدات الكلامية التي كانت تسوده.
ببساطه يمكنه أن يكون أيّ شيء إلا أن يكون خطاب سلطة حاكمة وحكيمة.
وفضيلته الوحيدة أنه ينبئ عن سقوط النظام ويمهّد لهذا السقوط دون أمجاد أو مآثر تذكر له.
فقد تكفّل الخطاب وحده بالبرهنة على إخفاق النظام ليس في مواجهة تحدي التغيير فحسب وإنما في إدراك هذا التحدي والاعتراف به.
بالمقابل كانت الخيبة والمرارة وحدهما من نصيب ممن كان لا يزال يراهن على نوايا النظام وقدرته على الإصلاح وهم الأسوأ حظاً بالتقدير.
في حين إن أحداً من السوريين الذين حسموا خيارهم في التغيير, وقد خبروا نوايا النظام ووعوده ومواعظه, لم يكن يتوقع منه أفضل مما كان.
تلكم هي الميزة الرئيسة للخطاب الأخير للرئيس السوري بشار الأسد.
وهي تكمن في المفارقة القائمة بين مقاصد الخطاب ونتائجه غير المتوقعة.
إذ بينما كان الخطاب يستجدي إقناع الآخرين وكسب ثقتهم بجدوى سياسات النظام وخاصة تلك المتعلقة بالإصلاح ويحاول خلق الطمأنينة لديهم, أفضىت بلاغته المتصنعة إلى العكس تماماً.
وبخلاف ادعائه المعلن بالإصلاح, فقد أثبت أن توقع الإصلاح الحقيقي والجاد هو وهمٌ عديم الفائدة.
وأن تبني مطلب الإصلاح من جانب السلطة ليس سوى مراوغة وشعوذة سياسية يراد بها التضليل والخداع, وهي ليست سوى محاولة جديدة لإخضاع الناس وتطويعهم.
وهي تتوارى وراء شعار الإصلاح لتهيمن مجدداً وتستعيد نفوذها كسلطة مستبدة.
هذا هو شأن كل سلطة تعيش هاجس وجودها المهدد.
إلا أن الخبرات التاريخية والسياسية, للسلطة السورية التي اعتادت, طوال تاريخها, على التعاطي بغطرسة وقسوة مع معارضيها دون أن يردعها شيء, حالت هذه المرة دون أن تدرك و تعترف بالمآل الذي وصلت إليه في أزمتها.
وهي في الوقت نفسه تخشى وتتوجس السخط الشامل الكامن في الشارع السوري, الذي لم يتجلى بعد بحجمه الحقيقي.
وكل سلطة تعجز عن إدراك حقيقة أزمتها على هذا النحو ولا تقرّ بها تفشل في الوصول إلى اكتشاف الوسائل الأنجع للخروج منها.
البرهان على سقوطه الحتمي هو الجزية غير المتوقعة, وغير الملزمة, التي قدمها خطاب رأس النظام للثورة السورية, عن مكره وجبروته ومزاعمه المراوغة عن الإصلاح من أجل إقناع السوريين أن مصلحتهم تكمن في بقائه, وأن أمنهم وازدهارهم رهن باستمراره وصياً متسلطاً عليهم, وأن منفعتهم واستقرارهم الاجتماعي يقتضي في نهاية الأمر تأبيد استبداده, لا تقيّد إرادته أيّ قانون أو شرع دنيوي أو سماوي, وبهذه النتيجة نترك القول الفصل للتاريخ كي يحكم بطريقته الخاصة.