من جديد يعلن حزب العمال الكردستاني عن وقف شامل لإطلاق النار من جانب واحد ،وذلك بغية إفساح المجال أمام جهود السلام التي تقودها أطراف كردية ودولية من اجل حل القضية الكردية بشكل سلمي ، هذه الخطوة التي تأتي قبيل زيارة اردوغان لواشنطن،وما قد تحمله هذه الزيارة من نقاشات ومقايضات تركية – أمريكية في ملفات عديدة تتعلق بالقضايا الساخنة في الشرق الأوسط كإيران ولبنان ومكافحة الإرهاب، وبالطبع الموضوع الأكثر حساسية لتركية أي موضوع حزب العمال الكردستاني ، الذي دأب على الإعلان عن وقف متكرر لإطلاق النار إلا إن الدولة التركية دأبت من جهتها إلى تجاهل هذه المبادرات، وأصرت على الحل العسكري لهذه القضية, وقد ثبت للكثير من الساسة والمحللين عقم هذا الحل وخصوصا بعد الدروس المستقاة من الحرب التي دارت رحاها بين إسرائيل وحزب الله
،وما أبداه الأخير من صمود ومقاومة شرسة تجاه القوة الهائلة التي يملكها الجيش الإسرائيلي ، وقد كانت أنقرة تأمل لعب دور شبيه بالدور الإسرائيلي ، وأخذت فعلاً تعطي جيشها الحق في مطاردة المقاتلين الكرد في كردستان وطالبت من واشنطن مساعدتها في تحقيق هذا الهدف ، إلا إنها لم تلقى بعد آذانا صاغية من أمريكا ، التي تجد نفسها في موقف حرج تجاه حلفائها القادة الكرد العراقيين الذين اقنعوا بدورهم حزب العمال بوقف النار، وهذا ما جرى بالفعل ،إلا إن رد العسكر الترك كان سريعا حينما رفضوا العرض الكردي، وأصروا على حقهم في مطاردة المقاتلين الكرد في شمال العراق أسوة بإسرائيل ، رغم الفارق الكبير بين الحالتين فحزب الله هو حزب أجنبي بالنسبة لإسرائيل ولا يملك أية شعبية داخل إسرائيل نفسها، أما حزب العمال فهو فصيل مكون في معظمه من مقاتلين أكراد أتراك ،لهم ملايين الأنصار داخل تركية حيث إن الكرد يشكلون القومية الثانية في تركية ، والقضية الكردية حاضرة وبقوة على الساحة التركية منذ ثمانين عاما وأكثر رغم تجاهل السلطات لذلك ،وان القضاء على الحزب الكردستاني لا يعني بأي شكل من الأشكال نهاية هذه القضية ،فكم من الثورات الكردية التي أخمدت بقوة السلاح لكن الشعب الكردي لم يمت ولم ينتهي بل ظل متمسكا بخياراته في المطالبة بالحرية والعدالة والمساواة وحقوقه القومية المشروعة مثله مثل كل أمم وأقوام الأرض.
إن تركية وبإصرار جنرالاتها على الحل العسكري كرد على المبادرة الكردية السلمية ،إنما يمهدون الأرضية لنشوء نزاع كردي –تركي يخشى أن يمتد إلى كامل المنطقة ،وهو ما سيؤدي إلى تفاقم حالة اللا استقرار الموجودة أصلا في المنطقة وسيؤدي حتما إلى مزيد من العنف والعنف المضاد داخل المدن الكردية و التركية داخل تركية على حد سواء، وهذا ما بدت بوادره واضحة في الأشهر الأخيرة حيث زادت التفجيرات التي استهدفت مناطق سياحية في تركية والتي تبناها فصيل كردي متشدد هو صقور الحرية في كردستان ، كما زادت الميليشيات القومية التركية المتطرفة من هجماتها تجاه المدنيين الكرد ولا سيما في ديار بكر وشمدنللي ،وهذه الصورة المرعبة يخشى أن تشمل كل المنطقة فيما لو أصرت أنقرة على الحل العسكري لهذه القضية ، مما سيزيد حتما مشاكل أنقرة الكثيرة أصلا والتي كان آخرها مطالبة الرئيس شيراك لها بالاعتراف بمجازر الأرمن، واعتبار ذلك شرطا أساسيا لدخول أنقرة إلى الاتحاد الأوربي إلى جانب الطلبات الأخرى الكثيرة والصعبة.
تركية التي خرجت مهزومة من الحربين العالميتين الأولى والثانية لم تستطع إلى الآن أن تصفي وتحل مشاكلها التاريخية، ولم تستطع الوصول إلى جزء بسيط من المكانة الاقتصادية والعالمية التي وصلت إليها حليفتاها السابقتان ألمانيا واليابان،واليوم تجد نفسها محاصرة من جميع الجهات ،وان الموقع الجغرافي التي كانت تراهن عليه إلى أمد قريب،لم يعد يشكل تلك الأهمية القصوى التي تستطيع من خلالها الولوج إلى عالم الكبار، وبات عليها اليوم حل مشاكلها الداخلية قبل الرهان على الخارج، واغتنام الفرصة المتاحة حاليا من إعلان حزب العمال لوقف النار والمباشرة الفعلية بمفاوضات مع الحزب أو أي فصيل كردي آخر يملك الشعبية والقوة التي تخوله التحدث باسم الكرد في تركية، وذلك بغية الوصول إلى قواسم مشتركة تضمن الحقوق المشروعة للكرد، وتؤمن في الوقت نفسه وحدة الدولة التركية واستقرارها وخصوصا بعد المواقف المرنة التي أبداها زعيم الحزب .
الأمل كبير بالسلام، وهذا الأمل يقع على عاتق السياسيين الترك أكثر من العسكريين الذين تكمن مصالحهم في بقاء العنف دون أي اعتبار للأرواح التي تزهق من الطرفين ،فهل تستمع تركية إلى صوت العقل و تغتنم هذه الفرصة ويتحقق أمل السلام ؟ هذا ما نرجوه جميعاً كرداً وتركاً.