لماذا الكردي مشدود إلى جرابه الغرائبي والعالمي باسمه ودلالته؟ أو لماذا هذا الحديث الفولكلوري عن الكردي استنادا إلى جرابه؟ ما الذي أضفى مسحة العالمية على الكردي عبر جرابه هذا؟ هل من ميزة اعتبارية لافتة تدعو الكردي إلى الافتخار بجرابه ذي الشأن الحكائي أو الأمثولي وكأنه “كنغريٌّ”: من الكنغر ذي الصيت، أم أن ثمة ما يدعو إلى الأسف تلو الأسف إزاء تقديم ما، للكردي عبر جرابه المتعدي لحدوده” اللاحدود” طبعاً؟
لنرجع إلى الوراء قليلاً في حديث تاريخي جرابيّ المقام!
ثانياً، كان جراب الكردي اسما لصحيفة فلسطينية تهكمية ساخرة نشأت سنة 1908، ومحررها متري الحلاج..
كما لو أن الجد والهزْل يلتقيان عبر جراب الكردي ويسِمان الكردي نفسه، ولكن ما موقع الكردي في الحالتين؟
ثالثاً، في تقديم الباحث الفرنسي المعروف فرانسوا شاتليه، لكتاب (تاريخ الإيديولوجيات)، وهو في ثلاثة أجزاء، منشورات وزارة الثقافة السورية، دمشق/1977، يشير إلى ما هبَّ ودبَّ من التعاريف والمعاني المتعلقة بمفهوم ” الإيديولوجيا”، ويجد توصيفاً يرضيه ربما على الأقل في تقريب الفكرة، بأن ذلك أشبه بـ(جراب كردي تكدس فيه، مختلطة، كل الأخطاء وكل البلاهات، أي أفكار الخصم حسب المعنى الشائع، حالياً.
ج1، ص 6).
رابعاً،- أخيراً وليس آخراً- يتحدث المفكر الفرنسي ما بعد الحداثي ادغار موران، في كتابه (روح الزمان)، وهو أيضاً من منشورات وزارة الثقافة السورية، دمشق/1995، عن المعاني الهائلة للترويج المتعلق بالسلعة المصنَّعة وطرق الترغيب فيها، فيجد بغيته للتوضيح في جراب الكردي بدوره( وليس الترويج، فقط، جراب الكردي الذي تدخل، فيه، المحتويات الأساسية للحياة وحيث يصبح التوق إلى السعادة الفردية مقتضى..- ج1، ص76).
الكردي عبر جرابــــه
ما الذي شد الكردي إلى جرابه؟ هل من تسليط ضوء تاريخي على واقعة جرابه وخروجه إلى العالمية دونه؟
لماذا يتقدَّم جراب الكردي صاحبه، أهي حالة ندرة، أو ما ليس مألوفاً لدى سواه، ليكون هذا التركيز عليه فيما هو معرَّض للتلف أو التبدل، فيكون العرَضي علامة تعريف به، وكأن الجوهري مستأصَل منه كما هو الجاري النظر فيه تاريخياً، عندما يرتقي هو ذاته إلى مستوى جرابيٍّ، أن يكون المعرَّف بغيره وليس بنفسه ثقافياً!؟
إن تدقيقاً متعدد المسارات في الجراب العجيب الذي يضم إليه كشكولاً من الأدوات، يكاد يبوح بكلمة سره، عند التوقف على حالة الكردي الظرفية المجدَّدة، على طابع المفارقة التي تجلوه فيما هو عليه لغيره، وفيما يصرَف النظر عنه بالنسبة إليه ككائن إنسي فاعل حيث يعيش ويعمل ويفكر، إنما تحت وصاية متتابعة في جهاته الأربع!
ليس الكردي مشدوداً إلى جرابه، أو مضافاً إليه، إلا لأن لعبة مفارقات موجهة تحيله من وضعية المكتفي بنفسه القادر على تمثيله من موقع الأهلية في العقل، إلى موقع متحرك مموَّه لا يُرى إلا في مرآة غيره.
إن حديث جراب الكردي لهو حديث حكايته في الزمان والمكان، حكاية الجغرافيا التي تسمَّى باسمه موطناً جدودياً، مسقط رأسه الجمعي، وقد استحالت الجغرافيا عينها جراباً تسويقياً لتاريخ المتحكم به، ليكون المأخوذ بجرابه في تاريخ يسهل تبين أبوابه وفصوله وما بين سطوره بلغة تلزمه بطاعتها ليكون المحكوم بممثـّلها.
من ناحية أخرى، في وسع الجراب هذا أن يمضي بعيداً وعميقاً إلى رحابة تاريخ مأسوي، تاريخ ارتحاله الذي لا يهدأ رغماً عنه، وهو في وضع مِزَقي، وقد حمل ما يمكنه حمله تذليلاً قدرياً مقاوماً للعيش في حده الأدنى.
جراب الكردي شاهده على صروف دهره الذي لا يلفظ اسمه إلا محرَّفاً عن سياقه، شهيده باسمه، لا يحدَّد مقاماً إلا في تنقلات جهوية كما هي إرادات القيمين عليه، لتكون زوادته اليسيرة وما يدخل في عداد السكن جرابياً.
إنها حنجلته الاضطرارية، أي رقصه القسري من الألم ملسوعاً بتاريخ نافذ في جغرافيا تتنكر له، وقد صار هو نفسه الجرابي دون المعنيّ به إلا ضرباً من ضروب السخرية المُرة، حتى في أتمّ حالات التعبير الجدية عنه، وذلك عندما يكون الجراب معانقه لا مفارقه، المتربص به لا محرَّره من بداوة طارئة عليه أو تحول دون تمدنه.
وفي الأمثلة التي تقاسمت الكردي عبر جرابه، يمكن للباحث الانتروبولوجي قبل غيره، أن يستشرف العالم البؤسي الذي يختزله شيئياً، ويمثّل مادة مطواعة، طرائفية، فكاهاتية، دون مكاشفة التذرير القيمي لشخصه.
أن يكون الكردي محط أنظار الآخرين وبلغات شتى، اعتماداً على جرابه، ويكون جرابه مصرفاً لكل ما يراه البحاثة أو المفكر أو السياسي أو الصحفي أو ضارب المثل من غير بني جلدته، ملغزاً، يصعب البت فيه، فذلك إحالة مباشرة، ودفعة واحدة للكردي إلى سياق هـِبابي، كما هو لسان حاله حيث يحجَّر عليه في جراب غيره!!
في النهاية: أشرتُ في البداية إلى ربط جراب الكردي في وضع معيشي من أوضاعه بالكنغر، لأقول من باب التوضيح: إن الكنغر” هذا الحيوان الجرابي الاسترالي” ليس أكثر من سؤال جهةَ المعنى، إذ إن الذي أبصره للمرة الأولى واستغرب رؤيته، أطلق سؤاله، وهو” كنغر”، أي ” ما هذا؟” وبقي ” ما هذا؟” اسماً وليس سؤالاً
ينتظر جوابه، وربما كان ” جراب الكردي” في مرتبة سؤال” ما هذا؟” ينتظر جوابه المتعلق بتصنيفه الإنسي!
=========
اعتذار: اعتذر للسادة القراء عن خطأ وقع سهواً في مقالي ( لغز رأس الكردي)، وهو يتعلق بـ(سقوط الدولة الأموية)، والصحيح (سقوط الدولة الأيوبية)!