من الأسابيع الأولى لثورة الحرية والكرامة في سوريا، أظهر الشعب السوري إصراره على الوحدة الوطنية بشكل لا نعتقد أنه مسبوقٌ في التاريخ.
لم يتوقف الأمر على الشعارات والهتافات المرفوعة بإصرار وتكرار في المظاهرات فقط، على أهميتها البالغة، وإنما تجاوز ذلك إلى أن يفتدي السوريون بعضهم بعضاً بالروح والدم بكل ما في الكلمة من معنى.
نرجو من كل من يهمّه الأمر التفكير في هذه الظاهرة بدرجة من الدقة والجدّية.
وعلى مدى ثلاثة شهور من أحداث الثورة، ورغم كل المحاولات التي قام بها النظام إعلامياً وسياسياً وعملياتياً على أرض الواقع لإظهار المسألة الطائفية إلى السطح، وللتخويف بها في كل مناسبة، ولتعميقها في كل منطقة في سوريا، لم نسمع حتى الآن إلا عن ممارسات إشكالية معزولة جداً يمكن أن تندرج في تلك المسألة.
مضى على انطلاق شرارة الثورة أكثر من أحد عشر أسبوعاً، ولم نسمع من رمز شريف من رموز المعارضة في الداخل أو في الخارج، ومن كل الطوائف والمناطق، تصريحاً أو كلمة تشير إلى الاهتمام بالمسألة الطائفية، أو ضرورة أخذها في الحسابات من قريب أو بعيد.
لا يخرج فردٌ يتحدث عن الثورة السورية، من خارج صفوف النظام، إلا ويتحدث عند سؤاله عن مستقبل سوريا عن دولة مدنية ديمقراطية بكل معنى الكلمة.
لا تسمعُ في كل المحافل التي تقيمها المعارضة، ولا على لسان ممثليها في الداخل والخارج إلا حديثاً مؤكداً واضحاً صريحاً يطرح «خطاباً مدنياً ديمقراطياً يقوم على بناء الوطن الواحد لجميع مواطنيه، وعلى عروبة سوريا، وعلى التزامها بدورها التاريخي في المشرق العربي، محصنةً في وحدتها وتنوعها ضد الطائفية» وعن «سوريا ديمقراطية تقوم على المواطنة بحقوقها المدنية والاجتماعية والسياسية».
نرجو من كل من يهمه الأمر التفكير في هذه الظاهرة بدرجة من الدقة والجدّية.
تجري انتخاباتٌ في أحد التجمعات التي تمثل المعارضة في أنطاليا لانتخاب لجنة متابعة لا أكثر ولا أقل، فتفوز بها قائمةٌ تضم عن حزب الحداثة الناشطة العلوية سندس سليمان جنباً إلى جنب مع ممثلين للإخوان المسلمين والكرد والمستقلين وممثلي بعض الأحزاب والتجمعات الأخرى.
وتَظهر سليمان على جميع وسائل الإعلام لتؤكد تحديداً معنى الحدث المذكور وتربطه بالإرادة الموجودة لدى جميع أطياف الشعب والمعارضة على تجاوز المسألة الطائفية.
نرجو من كل من يهمه الأمر التفكير في هذه الظاهرة بدرجة من الدقة والجدّية.
انظروا إلى صفحة الناشط العلوي رامي حسين على «فيس بوك» وتابعوا نشاطاته ومواقفه، وسترون ماذا نعني عندما نؤكد ويؤكد معنا الشعب السوري الثائر بأسره أننا شعبٌ واحد.
وبأننا لن نرضى إلا بدولة مدنية ديمقراطية حديثة يتساوى فيها جميع المواطنين في كل الحقوق والواجبات.
نرجو من كل من يهمه الأمر التفكير في هذه الظاهرة بدرجة من الدقة والجدّية.
تذكّروا من هو ميشيل كيلو ومن هو عارف دليلة ومن هو رياض الترك ومن هي سهير الأتاسي ومن هي منتهى الأطرش وغيرهم وغيرهم، وتذكّروا ما هي قيمة هؤلاء وما هي درجة تقديرهم وما هو دورهم في نظر الشعب السوري.
نرجو من كل من يهمه الأمر التفكير في هذه الظاهرة بدرجة من الدقة والجدّية.
أطلق الثوار في سوريا على جُمَع ثورتهم أياماً مثل (الجمعة العظيمة) و(جمعة أزادي/ الحرية) و(جمعة الحرائر) و(جمعة حماة الديار) و(جمعة أطفال الحرية) و(جمعة العشائر).
هل يعني هذا أن هذه الجُمَع كانت للمسيحيين فقط وللكرد فقط وللنساء فقط وللجيش العربي السوري فقط ولأطفال سوريا فقط وللعشائر فقط!
تعلمون ونعلم أن المجتمع السوري مكونٌ من كلّ أجزاء تلك الفسيفساء الجميلة، وحين تتفتق عبقرية الفعل الثوري عن مثل هذه الأسماء فإنها تؤكد أولاً وقبل كل شيء على وحدة المصير لكل أطياف الفسيفساء المذكورة، لكنها بواقعيتها العملياتية توظّف أيضاً الأسماء بوسائل مختلفة لعمليات حشد لا يمكن أن تنجح من دونها ثورةٌ من الثورات..
نرجو من كل من يهمه الأمر التفكير في هذه الظاهرة بدرجة من الدقة والجدّية.
ماذا تريدون من السوريين أكثر من ذلك؟
حسناً، سنقبل رغم كل هذا أنه لا يزال هناك خوفٌ، نقول الآن تجاوزاً، أنه مشروعٌ لدى مؤيدي الثورة السورية من بعض المثقفين والإخوة المواطنين العرب، بخصوص احتمالات الانقسام الطائفي أو المناطقي أو الاثني في سوريا الجديدة القادمة.
وقد عبّر (الغيِّرون) من أطراف النظام العربي والإقليمي عن هواجسهم بهذا الخصوص علنياً وفي كل مناسبة ولقاء.
يؤلمنا أن نقول، وبعيداً عن عواطف لا مكان لها في مثل هذا المقام، أن ثمّة إساءة ظن كبيرة تتمثل في ذلك الموقف.
وهي إساءة ظن لا تتعلق فقط بإنكار تاريخ سوريا الحضاري الراسخ في التجربة البشرية، ولا بتجارب وحدتها الوطنية في أوقات الفعل الثوري أيام الثورة، وفي زمن الديمقراطية الحقيقية بعد الاستقلال، لكنها أيضاً إساءة ظن بهذا الشعب العظيم، وبكل طلائعه الثقافية والسياسية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية الشريفة!
المؤلم في القضية أن النظام السوري يدرك ما نتحدث عنه تماماً، ويدرك أن التخويف بما يسميه الانقسام القادم والفوضى المقبلة يكاد يكون ورقته الوحيدة والأخيرة في الداخل والخارج.
لهذا، لا يترك مجالاً للعب بهذه الورقة إعلامياً وسياسياً وعملياتياً على أرض الواقع إلا ويحاول استعماله لتأكيد الهواجس المذكورة.
يفهم الشعب الثوري الثائر دوافع جميع الشرفاء ويقدّرها كل تقدير.
ويُدرك، بواقعيته الثورية والحضارية، أن هذه القضية ستكون تحدياً، خاصةً في ظلّ الضرب على وترها من قبل كل من يهمّه فشل الثورة في كل مكان.
لكنه يخاطب هؤلاء الشرفاء قائلا: لا يوجد في العالم وطنٌ يعيش فيه شعبٌ من الملائكة.
وفي سوريا أكثر من ثلاثة وعشرين مليون مواطن.
سيكون منهم أفرادٌ هنا وشريحةٌ هناك يمكن أن يعزفوا على وتر الانقسام والطائفية عن جهل أو عن سابق قصد وتصميم.
وسيكون منهم أفرادٌ هنا وشريحةٌ هناك قد يقعون في هذا الفخّ، لأنهم لن يتمكّنوا من مقاومة المكائد السياسية والإعلامية والضغط الأمني الدموي الوحشي الذي يواجهونه من النظام.
لكن هؤلاء كانوا وسيبقون الأقلية الهامشية الصغيرة.
والدليل على هذا كلُّ ما قلناه سابقاً.
وكلُّ تاريخ سوريا القديم والمعاصر، وأهمُّ من هذا وذاك، ثقةٌ ننتظرها منكم بهذا الشعب وطلائعه الحديثة في كل مجال.
وعقدٌ اجتماعيٌ وقانونيٌ وسياسيٌ قادم، لن نرضى جميعاً إلا أن يكون الضامن الأكبر لتجاوز هذه القضية، مرةً واحدةً وإلى الأبد.
نقلا عن “العرب” القطرية