لغز رأس الكردي

إبراهيم محمود
 
يسرد أحمد أمين” 1886-1954 ” : الكاتب والمؤرخ المعروف، صاحب” ثلاثية الإسلام” في سيرته الحياتية المسماة بـ(حياتي)، دار الناشر العربي، بيروت، ط3/1985 الحادثة التالية (نظر مرة إلى رأسي أستاذ جامعي في علم الجغرافيا وحدَّق فيه ثم قال: هل أنت مصري صميم؟ قلت: فيما أعتقد، ولمَ هذا السؤال؟ قال إن رأسك- كما يدل عليه علم السلالات- رأس كردي.

– ثم يمضي الكاتب معلقاً- ولست أعلم من أين أتتني هذه الكردية، فأسرة أبي من بلدة” سمخراط” من أعمال البحيرة أسرة فلاحة مصرية، ومع هذا فمديرية البحيرة على الخصوص مأوى المهاجرين من الأقطار الأخرى.

فقد يكون جدي الأعلى كما يقول الأستاذ كردياً أو سورياً أو حجازياً أو غير ذلك.

ولكن على العموم كان المهاجرون من آبائي ديمقراطيين من أفراد الشعب لا يؤبه بهم ولا بتاريخهم.

ص56).
تتوقف الحادثة هنا، ولعلها أدَّت مهمتها من جهة الدلالة، حيث إن الكاتب يسلّط الضوء على أعمال السخرة في زمانه” قبل أكثر من قرن”، وفي محيط منطقته، الأمر الذي حفَّز أهله على النزوح إلى القاهرة والاستقرار فيها.
أمين يسرد الحادثة من وجهة نظر بحاثة اجتماعي سلالي، دون أن يسائل حقيقة سؤال الأستاذ الجامعي، ولعل الجامعي لم يسأله إنما أراد تأكيداً إذ يبدو على سؤاله أنه مطَّلع على التنوع السلالي للشعوب، كما أن الكاتب يكاد يستجيب لما يذهب إليه الجامعي والذي يظهر أنه يمتلك خبرة في مجاله، لأنه لم ينكر ما سمعه، إنما ذهب بقارئه إلى ذات المنطقة وطبيعتها السكانية وواقعها الاجتماعي، كما لو أنه ترك السؤال البحثي المعمق للقارئ نفسه.
بشكل عام،على صعيد السيمياء يظهر مدى اهتمام الأستاذ الجامعي بما هو مورفولوجي” التشكيل الظاهري للجسم”، وهو ذاته لم يشَر إليه: ما إذا كان مصرياً في الصميم أم لا؟ أتراه كان يعيش هاجس سؤاله كردياً هو الآخر، وأن ثمة ما يشده إلى طالبه” أمين”، والأخير بدوره لم يمض في التعريف- ولو في الحد الأدنى بأستاذه.
لعلنا إزاء ما أسمّيه بـ” لغز رأس الكردي“، وما إذا كان في المستطاع تعيين جملة مواصفات له، ليتم التمييز بينه وبين رأس سواه، وقد تعرَّض ما تعرض له من أشكال نزوحات قسرية وبحث عن ملاذ أمان هنا وهناك، تبعاً لنوعية الأنظمة التي يعيش في ظلها، مواطناً حتى الآن دون المواطنة، كما لو أنه مثقَل بشبهة الكردية.
غير أن أمين لا يمكنه أن يدعنا وشأنه عمَّا استرسل فيه لاحقاً، وخصوصاً في بلد مثل مصر منذ أيام صلاح الدين الأيوبي، وبعد سقوط الدولة الأموية وتشتت الشمل العائلي: الأيوبي، ومن ثم الكرد المقيمين هناك إلى الجهات الأربع هرباً من ملاحقات شتى، وقد ألزِموا بتغيير أسمائهم وكناهم، أو اُضطروا هم إلى ذلك تفادياً لعدوى الملاحقة، لكن- وكما يبدو مجدداً- يظل الرأس الكردي دالاً عليهم، كما لو أن  عبارة” سيماؤهم في وجوههم” تستحيل” سيماؤهم في رؤوسهم”، وكأني بالجامعي لم يشهد فلتة لسانية أو عفو الخاطر، إنما يعيش لغز رأسه.
يمكن للكردي أن يطالعنا برأسه في كل بقاع الأرض، ليس لأن ثمة خصوصية استثنائية من نوع” الدم الأزرق المزعوم والجاري في عروق البعض”، وإنما لأن تاريخاً من الشتات والانزياحات، لما يزل فاعلاً بمشاهده الدراماتيكية، تاريخاً من الطرد المشرَّع بصيغ شتى هو الذي يحيله إلى مواطن أمكنة شتى دون مواطنة فعلية.
يتحسس الكردي رأسه كثيراً، لعله في ذلك يفصح عن خوف من مجهول ما، عن سيف” ديموقليسي” مقدَّر مسلط عليه حيثما حل، لا يراه سواه، سيف نفسي أو ثقافي أو اجتماعي أو سياسي حاد، وليس مجرد فوبيا السيف!
لست بصدد تقديم بحث عن خاصية رأس الكردي، وما إذا من لغز فعلي يضعه في واجهة الأحداث التاريخية الشاغلة بعنف يتهدده دون توقف، كما لوأنه لغز أبي الهول المصري، إنما هو الكلام نظير تعليق الجامعي المصري الجدير بالمكاشفة عن خلفيته، حيث كان بالإمكان حينذاك” زمن الخديوي” طرح تصور من هذا النوع.
ليس من يقينيات كبرى بصدد التمييز بين الشعوب انطلاقاً من خاصية الرأس، رغم تأكيد البعض، أو الكثير من السلاليين على واقعة من هذا النوع، لكن يظل السؤال العائد إلى الرأس وتوصيفه السلالي محفّزاً على البحث.
لدى كردنا ثمة ما يتنقل أو يُتداول عما يخص الرأس الكبير ودلالته، إنه غير محتفى به، ظاهرياً على الأقل:
 (ذو الرأس العِجْلي- ذو الرأس الثُّوري- رأسه يكفي لوليمة كبيرة- ذو الرأس الكبير…الخ)، وبالمقابل، يمكن سماع النقيض (ذو الرأس الشمامي” كشمامة”- ذو الرأس العصفوري- ذو الرأس الحرذوني marmarok..).
ولعل نظرة فاحصة إلى الأسماء الواردة هنا، وهي تمثل كتاباً وفنانين وساسة كرداً، تضعنا في حالة بلبلة، واستحالة الأخذ بصفة دون أخرى باعتبارها الحقيقة القاطعة في تبين رأس الكردي وتميزه عن غيره، إنها قائمة تضم رؤوساً كبيرة وصغيرة ومتوسطة، ومعروفة بإبداعاتها، أدع البت فيما بينها لأهل الفصل والوصل:
جلادت بدرخان- جكرخوين- محمد عارف جزراوي- عيشه شان- نورالدين ظاظا- أوصمان صبري- مالڤا- بشار العيسى- حامد بدرخان- يشار كمال- يلماز غوني- محمد شيخو- سعيد يوسف- شڤان- جوان حاجو- محمد أوزون- سليم بركات- عبدالباسط سيدا- إبراهيم يوسف- كچا كرد- حسين حبش- خلات أحمد- لقمان بولات..الخ..
من المستحيل بمكان فرز هذه الرؤوس عن بعضها بعضاً اعتماداً على قياسات معينة وأحجام مقرَّرة.

إنما السؤال المتعلق بالرأس هذا قد يضعنا على مفترق طرق تاريخ تواجد الكردي، وهو منوّع بيئاتـِه، والمخاطر المهددة له، يضعنا السؤال في مواجهة الوصف الذي يبقي الرأس في واجهة الحدث الخاص: الجبلي، الريفي، المدني، الثابت، الرحالة، وما يتعرض له على الصعيد التغير في الأوصاف إزاء تحول المكانة أو الحالة الاجتماعية وغيرها.
بقدر ما يمضي بنا لغز الرأس هذا إلى ما هو أبعد من كل ما تقدَّم، وهو جانب مكانته في المجتمع الذي يقيم فيه، وكيفية النظر إليه أو كيف يكون مرصوداً من الآخرين، بقدر ما يكون موضوع تعليق الكردي بالذات.
لكن الاختلاف حول رأس الكردي، ومدى لغزيته، لا يقلل من أهمية بقاء الرأس هذا لغزاً، وكيف يجري تقويمه لدى المعنيين بأمره ممن يصنَّفون في قائمة رؤوس أخرى، أي الذين لا يكفُّون عن إبقاء الرأس هدفاً بحثياً لهم، أو بمثابة دريئة للتدرب على رميها، أو للاستمتاع حين إلقاء القبض عليه والسخرية المرة في الوصف والتشبيه.

رأس الكردي يُطرَح حتى الآن باعتباره لغزاً لا يقبَل به كأي رأس يستحق الاستقرار بين منكبيه، ونيل حظوته الإلهية كغيره من لائحة الرؤوس منذ فجر التكوين، وهو يساوَم عليه، أو يستثنى برأسه في اجتماعات مغلقة أو مفتوحة أو مشكوك في حقيقة انعقادها بأسبابها الحقيقية، وفيما إذا كان يمثّل” بيضة القبَّان” في واقعة نعيشها نحن الكرد في مجتمع نؤكد انتماءنا إليه، عربياً وخلافه، لكن الرهان يستبقيه في الواجهة وعلى أعلى مستوى، ليستمر رأس الكردي في مسحة اللغزية إلى إشعار آخر، مادام ثمة فصل ينحّيه جانباً، من موقع كونه كردياً ليس إلا!

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين مؤتمر جامع في قامشلو على انقاض اتفاقيات أربيل ودهوك الثنائية لسنا وسطاء بين الطرفين ( الاتحاد الديموقراطي و المجلس الوطني الكردي ) وليس من شاننا اتفقوا او اختلفوا او تحاصصوا لانهم ببساطة لن يتخلوا عن مصالحهم الحزبية الضيقة ، بل نحن دعاة اجماع قومي ووطني كردي سوري عام حول قضايانا المصيرية ، والتوافق على المهام العاجلة التي…

شادي حاجي لا يخفى على أي متتبع للشأن السياسي أن هناك فرق كبير بين الحوار والتفاوض. فالحوار كما هو معروف هو أسلوب للوصول الى المكاشفة والمصارحة والتعريف بما لدى الطرفٍ الآخر وبالتالي فالحوارات لاتجري بهدف التوصّل إلى اتفاق مع «الآخر»، وليس فيه مكاسب أو تنازلات، بل هو تفاعل معرفي فيه عرض لرأي الذات وطلب لاستيضاح الرأي الآخر دون شرط القبول…

إبراهيم اليوسف باتت تطفو على السطح، في عالم يسوده الالتباس والخلط بين المفاهيم، من جديد، وعلى نحو متفاقم، مصطلحات تُستخدم بمرونة زائفة، ومن بينها تجليات “الشعبوية” أو انعكاساتها وتأثيراتها، التي تحولت إلى أداة خطابية تُمارَس بها السلطة على العقول، انطلاقاً من أصداء قضايا محقة وملحة، لا لتوجيهها نحو النهوض، بل لاستغلالها في تكريس رؤى سطحية قد…

شادي حاجي القضية الكردية في سوريا ليست قضية إدارية تتعلق بتدني مستوى الخدمات وبالفساد الإداري وإعادة توزيع الوظائف الادارية بين المركز وإدارات المناطق المحلية فإذا كان الأمر كذلك لقلنا مع من قال أن المشكلة إدارية والحل يجب أن يكون إدارياً وبالتالي حلها اللامركزية الادارية فالقضية الكردية أعقد من ذلك بكثير فهي قضية شعب يزيد تعداده على ثلاثة ملايين ونصف تقريباً…