دستور جديد لتركيا…. إمكانيات التغير


رستم محمود
تشهد تركيا في 12 حزيران/ يونيو 2011 المقبل انتخاباتٍ تشريعيةً عامةً.

وحسب رؤية حزب العدالة والتنمية الحاكم -المتوقّع أن يحصل على الأغلبيّة النيابية مجدّدًا- فإنّ المجلس النيابي المنبثق عن هذه الانتخابات، ستكون مهمّته الأولى وضع دستورٍ جديدٍ للدولة التركية، يحلّ محلّ الدستور الحالي، الذي وُضع عام 1982*.

ووفق العديد من المؤشّرات فإنّ التعديلات التي قام بها الحزب المذكور في شهر أيلول/ سبتمبر من العام 2010؛ وصدق الناخبون عليها بأغلبيّة 58 في المئة، ومست 28 مادّةً من الدّستور الحالي؛ شكّلت مقدّمةً ودافعًا لكتابة دستورٍ جديد كلّيًّا للبلاد.
  • الفاعلون الرئيسون في عملية وضع الدستور الجديد
  • الملامح السياسية للبرلمان التركي وفق الحالتين السابقتين
  • ملامح الدستور التركي الجديد
  • خاتمة

    سيكون الدستور الجديد المزمع وضعه في تركيا بمثابة عقدٍ اجتماعي وسياسي واقتصادي جديد بين المواطنين الأتراك، بعد أن نظّم الدستور الحالي حياتهم طيلة ثلاثين عاماً.

    وسيكون محصلةً للتّفاعلات السّياسيّة والثقافيّة والاقتصاديّة بين القوى الأساسيّة المؤثّرة في اتّجاهات المجتمع التّركي، ولتحرّك قواه المنظّمة والضّاغطة التي تضطلع بوظيفة القوّة الدّافعة لعمليّة التحوّلات التي يمرّ بها المجتمع والحياة السياسيّة التركيّة منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى سدّة الحكم.

    وتسعى هذه الورقة إلى مقاربة ما يمكن أن يكون عليه الدّستور الجديد وفيما سيختلف عن الدّستور الحالي.الفاعلون الرئيسون في عملية وضع الدستور الجديد 
    تَشي طبيعة التوازنات والعلاقات المشكّلة للخارطة السياسيّة التركيّة وتركيبة المجتمع التركي بأنّ عمليّة إعداد الدّستور الجديد ستخضع لتجاذب عددٍ من القوى الرّئيسة السياسيّة والاقتصاديّة والمجتمعيّة ذات التّأثير المتفاوت في الوضع التركي، ويمكن حصر هذه القوى في ثلاث مجموعات: 1 – مجموع الأحزاب السياسيّة التركيّة الرّئيسة الأربعة الممثّلة في البرلمان الحالي، بدايةً بصاحب الأغلبيّة النيابيّة و هو الحزب المشكّل للحكومة : حزب العدالة والتّنمية ذو التوجّه اللّيبرالي الإسلامي، ويملك 340 مقعداً من أصل 550 مقعداً في البرلمان التركي.

    يليه حزبُ الشّعب الجمهوري والذي يعتبر وريث الأيديولوجية الأتاتوركيّة القوميّة، وله 111 مقعداً.

    ثمّ حزب الحركة القوميّة التركيّة ذو التوجّه القومي اليميني، ويملك 77 مقعداً في البرلمان الحالي، وأخيرًا حزبُ السّلام والدّيمقراطية والذي يصنّف حزباً مؤيّداً لحقوق الأكراد وله 22 نائباً.

    ويوجد في البلاد عددٌ كبير من الأحزاب الصّغيرة غير الممثّلة في البرلمان الحالي[1].2 – قوى الدّولة غير المنخرطة في العمليّة السياسيّة بشكل مباشر، وتتمثّل في رئيس الجمهوريّة وقضاة المحكمة الدّستورية ورئاسة الأركان العامّة.

    ويعتبر رئيس الدّولة رمزَ البلاد حسب الدّستور، ويملك سلطة الحكم السّلبيّة، فهو يستطيع رفْض كافّة التّشريعات الصّادرة عن البرلمان، كما أنّه يعيّن رؤساء الجامعات وأعضاء المحكمة الدّستورية..

    إلخ.

    كما أنّ المحكمة الدستوريّة التي كانت تُعتبر -عرفًا وتاريخًا- قلعةَ التيّار العلماني في الدّفاع عن مصالحه الأيديولوجيّة والسياسيّة مقابل التّيار المحافظ؛ لها السّلطة المطلقة لرفض كافّة التعديلات الدّستورية التي تتعارض مع “المبادئ الرئيسة” للدّولة التركية الحديثة “الجمهورية والعلمانية والدّيمقراطية”.

    أمّا رئاسةُ الأركان، فتعتبر المؤسّسة الرسميّة والمرجعيّة التاريخيّة لتجمع قوّة الجيش، فجميع قادة الجيوش والفرق العسكرية وقوّات الدّرك يخضعون لقراراتها.3 – مجموع القوى المدنيّة الضّاغطة في البلاد، وبالذّات منها اتّحادات الصناعيّين والتجّار والإعلام[2].

    تتوقّف طريقة صياغة الدّستور الجديد ومضمونه بالدّرجة الأولى على خريطة توزّع القوى السياسيّة في البرلمان الجديد.

    وتشير استطلاعات الرأي[3ٍ] إلى أنّ توزيع القوى السياسيّة في البرلمان التركي المقبل سيكون مرهونا بوضع الهدنة القائمة بين الدّولة وحزب العمّال الكردستاني المسلّح، نظرًا لما لذلك من تأثير متوقّع في توجّهات النّاخبين.

    وعليه فإنّ استطلاعات الرّأي ترسم اثنين من السّيناريوهات:أوّلاً: لو استمرّت حالة الهدنة بين حزب العمّال الكردستاني المسلّح والجيش التركي، فإنّ حضور الأحزاب في البرلمان الجديد سيكون على النّحو التالي:

    • يحصل حزب العدالة والتّنمية على 39 في المئة من أصوات النّاخبين، وبذلك سيحصل على 310 مقاعد في البرلمان الجديد من أصل 550[4ٍ].
    • حزب الشّعب الجمهوري سيحصل على 28 في المئة من أصوات النّاخبين، وبذلك سيحصل على 200 مقعدٍ في البرلمان الجديد.
    • حزب السّلام والديمقراطية (المؤيّد للأكراد) الذي يدخل مرشّحوه الانتخابات التشريعيّة عادةً كمستقلين سيحصل على ما بين 30 إلى 35 مقعداً.
    • في حال استمرّت الهدنة بين حزب العمّال الكردستاني والجيش التركي، لا يتوقّع أن يحقّق حزب الحركة القوميّة اليميني عتبة 10 في المئة من أصوات النّاخبين المشروطة في قانون الانتخابات لأيّ حزب ليدخل البرلمان التركي[5ٍ].

    جدول رقم1: التوزيع المتوقّع لحصص الأحزاب التركية من المقاعد البرلمانية بعد انتخابات حزيران/ يونيو 2011 (حالة استمرار الهدنة)

  •  

  • تقسّم الجغرافية السياسيّة في تركيا إلى أربع مناطقَ رئيسة:
    1. مناطق وسط الأناضول والعاصمة وإسطنبول، حيث يحقّق حزب العدالة والتّنمية حضورًا انتخابيًّا تقليديًّا قويًّا (منذ بدْء الحياة الديمقراطية في تركيا عام 1950، شكّلت أحزاب يمين الوسط حضورًا قويًّا في تلك المنطقة)، وتعتبر هذه المنطقة مركز قاعدته الجماهيريّة.
    2. مناطق السّاحل الجنوبي على البحر المتوسّط والغربي على بحر إيجه، يحقّق فيها حزب الشّعب الجمهوري الحضور الأقوى في كافّة الانتخابات.
    3. مناطق البحر الأسود والمنطقة الشّمالية الشرقيّة من البلاد، تعتبر قاعدة لحزب الحركة القوميّة اليميني.
    4. المناطق الجنوبية الشّرقية من البلاد، يتقاسم حزب العدالة والتنمية النّفوذ فيها مع حزب السّلام والديمقراطيّة (المؤيّد لحقوق الأكراد)، مع أنّ هذا الأخير بدأ يحقّق في السّنوات الأخيرة تقدّمًا على حزب العدالة.

    ثانيًا: في حال كُسرت حالة الهدنة بين العمّال الكردستاني والدّولة التركية (ثمّة مؤشّرات طفيفة على ذلك، لكنها ممكنة)، فإنّ توزيع مقاعد البرلمان الجديد بين الأحزاب سيكون بالشّكل التالي:

    • يحصل حزب العدالة والتنمية على 32 في المئة من أصوات النّاخبين، و سيحصل بمقتضاه على 280 مقعداً في البرلمان الجديد من أصل 550، وبذلك يتراجع عددُ مقاعدِه بـمقدار 60 مقعدًا عن العدد الذي يحوزه في البرلمان الحالي أي بما يعادل نسبة 7 في المئة.
    • يحصل حزب الشّعب الجمهوري على 25 في المئة من أصوات النّاخبين، وبذلك يكون عدد مقاعده في البرلمان الجديد 160 مقعداً متراجعًا بنسبة 10 في المئة عن عدد المقاعد التي كان يملكها خاسرًا 17 مقعدًا.
    • حزب الحركة القوميّة اليميني، سيحصل على 15 في المئة من أصوات النّاخبين، وبذلك يكون عدد النوّاب المنتمين إليه 90 نائبًا، مسجّلاً ارتفاعًا بنسبة 10 في المئة عن عدد المقاعد التي كانت بحوزته.
    • سيحصل حزب السّلام والديمقراطية على 30 مقعداً، لأنّ مرشّحيه يدخلون الانتخابات التشريعيّة عادةً كمستقلّين.

       جدول رقم2: التوزيع المتوقّع لحصص الأحزاب التركية من المقاعد البرلمانية بعد انتخابات حزيران/ يونيو 2011 (حالة نقض الهدنة)

ملاحظة: ثمّة فارقٌ كبير أحيانا بين النسبة المئوية التي يحصل عليها حزبٌ سياسي ما في الانتخابات وبين نسبة حضوره البرلماني، وذلك بسبب طبيعة النظام الانتخابي التركي الذي يمنح أصوات الأحزاب السياسية التي حازت على أقلّ من 10  في المئة للأحزاب التي حازت على نسبة فاقت ذلك.الملامح السياسية للبرلمان التركي وفق الحالتين السابقتينفي الحالة الأولى، فإنّ حزب العدالة والتنمية سيستحوذ على أغلبيةٍ مريحةٍ في البرلمان المنتخب، تُمكّنه من صياغة دستورٍ جديدٍ يستوعب رؤيته السياسيّة والأيديولوجيّة للتغيّرات الجارية في علاقات المجتمع والاقتصاد والسّياسة في تركيا.

وفي الوقت نفسه، من المتوقّع أن يضطرّ الحزب إلى إيجاد تفاهماتٍ سياسيّةٍ مع طرفٍ سياسي واحدٍ فقط، هو حزب الشّعب الجمهوري الذي يمثّل الحزب الرّئيس للمعارضة، وبدرجةٍ أقلّ مع حزب السّلام والدّيمقراطية المؤيّد لحقوق الأكراد، والذي يحظى بدعم القوى الشعبيّة والاقتصاديّة الفاعلة في المجتمع الكردي – التركي[5ٍ].

وفق السّيناريو الآخر، سيكون حزب العدالة والتّنمية في موقع الأغلبيّة الطّفيفة أو البسيطة، ما سيجبره على بذل مزيدٍ من التّنازلات السياسيّة للقوى الأخرى الممثّلة في البرلمان، بهدف تحقيق وفاقٍ أو تسوية (Compromis) معها، مع ضرورة أن يحسب حساب حالة عدد المقاعد التي يمكن أن يحوزها حزبان قريبان سياسياً من بعضهما البعض أكثر من قربهما من حزب العدالة والتّنمية.ويشير العديدُ من المراقبين المتابعين للشّأن الدّاخلي التركي إلى أنّ الدافع الخفيّ والتّوافقي بين حزب العدالة والتّنمية وحزب العمّال الكردستاني لاستمرار وقف إطلاق النّار حتّى فترة الانتخابات التشريعيّة، سيمنح الفرصة الأكبر لتحقيق السّيناريو الأوّل.ملامح الدستور التركي الجديد 
وُضع الدّستور التركي الحالي عقب الانقلاب العسكري الشّهير الذي قام به قيادات في الجيش في العام 1980، بذريعة تخليص البلاد من الحرب الأهليّة بين القوى اليساريّة واليمينيّة القوميّة وقتها.

وقد وضعه القادةُ العسكريّون أنفسهم الذين قاموا بالانقلاب، وكان أبرز ما تميّز به عن الدستور السابق له هو منح السّلطات المطلقة لمؤسّسات الدّولة، وكبح جماح الحرّيات السّياسية نسبيًّا.

و على الرغم من إجراء 17 تعديلاً على هذا الدستور 1980، كان آخرها في أيلول/ سبتمبر 2010، إلاّ أنه بقيَ محافظاً على جوهره الذي يمكن تحديد ملاحمه في أربع نقاطٍ رئيسةٍ[6ٍ]: 

  • تُشدّد الموادّ التأسيسيّة الثّلاث الأولى على قيم العلمانيّة والديمقراطيّة والجمهوريّة.
  • تسعى البنية التأسيسيّة للدّستور دوماً لحفظ الدّولة والأمن القومي على حساب الحريّات الفرديّة والجماعيّة للمواطنين، أي أنّه دستور دولةٍ وليس دستورَ مواطنين، حسب تعبيرٍ شهير للمؤرّخ التركي عبد الرحمن قلكبايا، بعكس الدّستور الأقدم الذي وضع عام 1961.
  • يفصل الدستور التركي بين السّلطات، ويكاد أن يحصر السّلطة التنفيذية بيد الحكومة ورئيسها، لكنه يعطي المؤسّسة العسكريّة وصايةً إلزاميّةً على السّياسات العامّة عبر مجلس الأمن القومي، بحيث تعتبر قراراته وتوصياته ملزمةً لأيّ حكومةٍ.
  • يشدّد الدستور التركي على التمسّك بالقيم “العالمية” لحريّة الرّأي والتديّن والضّمير والنّشر والاجتماع…الخ.

مقابل هذه الملامح العامّة الأربعة للدستور التّركي الحالي، فإنّ الدستور المزمع وضعه يواجه أربعَ معضلاتٍ رئيسة بملامحه المتوقّعة، لأنّ خطاب الأحزاب السياسيّة التركيّة الرئيسة يبدو مختلفًا ومتباينًا، فيما يخصّ هذه الملامح[7ٍ].

ففيما عدَا القضايا التأسيسيّة في الدّستور التركي (العلمانيّة والدّيمقراطية والجمهورية) التي تتمسّك بها كلّ الأحزاب، وتحرص على أن تكون المواد التأسيسية في الدّستور الجديد، فإنها تختلف في أربعة ملامحَ أساسيةٍ، من الممكن أن يتشكّل على أساسها الدّستور الحديث.

وهي كما يلي:أوّلاً: النّظام الرئاسي بدلاً من النّظام البرلمانيتحدِّد الموادّ (109 – 116) من الدستور التركي الحالي شكْلَ السّلطة التنفيذيّة في الدّولة التركيّة وبنيتها حسب نظام برلماني، حيث تحصر تلك السّلطة التنفيذيّة بالحكومة ورئيسها المستند لأغلبيّة برلمانيّة.

وتبقى سلطة رئيس الجمهورية (المنتخب من أعضاء البرلمان) رمزيّةً وبروتوكوليّةً.ويرغب حزب العدالة والتّنمية في تغيير صيغة نظام الحكم هذه، ليصبح نظاماً رئاسياً ينتخب فيه رئيس الجمهوريّة بشكل مباشر في اقتراع شعبي عام، أشبه ما يكون بالنّظام الفرنسي.

ويفسّر المتابعون ذلك سياسياً، على أساس رغبة زعيم حزب العدالة والتّنمية ورئيس الحكومة الحالي رجب طيب أردوغان في تمديد سلطته بعد انتهاء ولايته الثالثة.

لكن حزب العدالة والتّنمية يدّعي في المقابل أنّ رغبته تلك تدخل في إطار تطوير البنية السياسية لمؤسّسات الدولة التركيّة.

وتذهب تفسيرات الحزب في هذا النّطاق إلى أنّ النّظام البرلماني حرَم تركيا في فتراتٍ طويلةٍ من الاستقرار السّياسي، ووقَف حجر عثرةٍ أمام الإصلاحات والمواقف السياسيّة الجريئة منذ فتراتٍ طويلةٍ، وأبقى سيفَ إسقاط الحكومات من قبل الأحزاب المتحالفة مسلّطاً على الدوام؛ فيما يوفّر النّظام الرئاسي أغلبيةً وسيطرةً واضحةً، وغير قابلةٍ للنقض من قبل قوّةٍ سياسيةٍ معيّنةٍ في البلاد مع كلّ دورةٍ انتخابيةٍ محدّدةٍ، ممّا سيسمح لهذه الأغلبية بتنفيذ برنامجها السّياسي دونما مشاكل.

وقد صدر عن زعيم الحزب أنّه يحلم برؤية تركيا كدولةٍ ثنائيّة الحزب، كما هو العرف السّياسي في الولايات المتّحدة الأميركية[8ٍ].يساند حزبَ العدالة والتّنمية في مسعاه هذا، حزبُ السّلام والدّيمقراطية المؤيّد لحقوق الأكراد، لأنّ هذا الشّكل السّياسي سيسمح لأيّ رئيس في البلاد باتّخاذ خطواتٍ انفتاحيةٍ نوعيّةٍ تجاه الأكراد، ومن جهةٍ أخرى فإنّه سيحّول هذا الحزب الكردي الصّغير إلى بيضة القبان بين المتنافسين.لكن هذا المسعى يلقى رفضاً تاماً من قبل حزبيْ الشّعب الجمهوري والحركة القوميّة، متذرّعين بأنّ هذا الشّكل في منظومة الحكم يلغي طيْفاً واسعاً من المجتمع التركي، كما يؤسّس لعهدٍ جديدٍ من السّيطرةٍ المطلقة لحزب العدالة والتّنمية على الحياة السياسيّة في البلاد.ثانياً: اللاّمركزية السياسيّة والإدارية[9ٍ] 
يريد حزب العدالة والتّنمية فكّ الشّكل الحالي لنظام “المركزيّة الإداريّة والسياسيّة والاقتصاديّة” في البلاد، والذي انطلق مرجعياً من النّموذج البيروقراطي الكلاسيكي للدولة-الأمّة الأوروبي والفرنسي بشكل خاصّ؛ وهي المركزيّة التي يشدّد عليها الدّستور الراهن بشكلٍ كبيرٍ، من خلال تأكيده على الوحدة المركزية للتّراب التركي، وعلى أحاديّة اللّغة التركيّة كلغة رسميّة ووحيدة في تركيا، ووحدانيّة الرّموز الجمعيّة في البلاد.

ويرغب حزب العدالة والتّنمية في أن يكسر تلك القاعدة، لكنه في المقابل يعترف بوجود معضلاتٍ كبيرةٍ أمامه، وأهمّها قدرته على السّيطرة شبْه المطلقة على المناطق الجنوبيّة الشّرقية “الكرديّة”، المتمثّلة في ولايات ديار بكر وباطمان وماردين وأورفة وشرناخ ووان وغيرها، وقمعه لفكرة ثنائيّة اللّغة الرسميّة التي يمكن أن تنشأ في حال فكّ شكل الدّولة المركزية[10ٍ].

وتعتبر هذه الإشكاليّة عبْئا كبيراً على الاقتصاد التّركي، إذ تؤثّر مركزيّة الدّولة في حيويّته.

ويعتبر التحوّل إلى اللامركزيّة الإداريّة والاقتصاديّة والثقافيّة “التعليمية” أحد أبرز مطالب حزب السّلام والديمقراطيّة المؤيّد لحقوق الأكراد، لكنه بالمقابل يلقَى رفضاً قاطعاً من قبل حزب الحركة القومية اليميني المتشدّد، ويبقى حزبُ الشّعب الجمهوري متردّداً بشأن هذا التحوّل، حيث يطرح في خطابه السّياسي حلولاً معيّنةً للتحوّل نحو اللاّمركزية السياسيّة، بشرط أن توضع ضمانات وهيئات رقابية تَحُولُ دونَ تحوُّلِ الجهات اللاّمركزية إلى تجمّعاتٍ على أسسٍ عرقيّةٍ ولغويةٍ ومذهبيّةٍ.ويفضّل حزب العدالة والتّنمية لامركزيّةً إداريةً اقتصاديّةً فحسب، وأن يجري بسْط السّيطرة الكاملة للدّولة المركزيّة في حقول الثّقافة والسّياسة والأمن والرّموز الجمعية[11ٍ].ثالثاً: العشرة في المئة يقرّ الدستور التركي الحالي، في جانب تحديده للقوى السياسيّة التي يحقّ لها أن تدخل البرلمان، شكلاً من أشكال الإقصائيّة القانونيّة؛ إذ ينصّ في المادة (127) على أنّ الأحزاب التي لا تحظى بنسبة 10 في المئة من مجموع أصوات النّاخبين لا يحقّ لها أن تدخل البرلمان، وأنّ كتلة الأصوات التي جمعتها توزّع بالتّساوي بين التيارات السياسيّة التي بلغت تلك العتبة.

أفرز هذا الشّرط القانوني واقعًا سياسيًّا استمرّ في تركيا عدّة عقودٍ، حيث يتشكّل البرلمان، تقليديًّا، من حزبين أو ثلاثة أحزابٍ رئيسةٍ، بينما يبقى عددٌ كبير من الأحزاب الصّغيرة محروماً من المشاركة البرلمانيّة.

و يقارب مجموعُ كتلة الأصوات التي تكون هذه الأحزاب الصّغيرة قد حصلت عليها، في أحيانٍ كثيرةٍ كتلةَ الأصوات التي حصلت عليها الأحزاب التي دخلت البرلمان، بحيث يبقى نصف النّاخبين تقريباً دون تمثيلٍ في البرلمان.تشدِّد جميع الأحزاب السياسية الصّغيرة في البلاد على أن يحوي الدستور الجديد مواد تحميها سياسياً وتحمي الأصوات التي تمثّلها، بالرغم من حجمها الانتخابي “المتواضع”.

وتأتي الأحزاب اليسارية التركيّة وحزب الحركة القوميّة اليميني المتشدّد وحزب السّلام والديمقراطية المؤيّد لحقوق الأكراد، في مقدّمة المطالبين بهذا.

غير أنّ حزبَيْ تركيا الكبيريْن ، العدالة والتنمية وحزب الشّعب الجمهوري، يرفضان ذلك، ويعتبرانه  لا يخدم تكوين حياةٍ سياسيّةٍ “صحيّة” في البلاد.رابعا: دستور لحماية المواطنين لا الدولة[12ٍ]مع إرهاصات اقتراب موعد وضع الدّستور الجديد، يعود الصّراع على مستوى الخطاب السياسي، بين القوّتين السياسيّتين الرّئيستين في البلاد.

فيصرّ حزب العدالة والتّنمية على أنّ الدّساتير التركية كانت توضَع تاريخياً من قبل نخبةٍ متسلّطةٍ، لذلك كانت تعلي من قيمة حقوق الدولة مقابل حقوق المواطن التركي، وتقلّص من واجباتها نحوه، أو نموذج الدّولة الشّبحيّة الحاضرة في كلّ شيء.

مقابل ذلك يؤكّد حزب الشّعب الجمهوري على أنّ تقوية مؤسّسات الدّولة، والدّفاع عنها هو أساس الدّيمقراطية التركيّة.وتعدّ مواقف حزب الحركة القوميّة أقرب لحزب الشّعب الجمهوري منها لحزب العدالة والتّنمية، لكن مجموع الهيئات المدنيّة والاقتصاديّة تساند موقف حزب العدالة والتنمية في هذا الاتّجاه، وترى أنّ أساس التنمية البشريّة هو التأسيس الدّستوري للحريّات العامّة الفرديّة والجماعيّة، ومنح المجتمع قدرة حيوية على إبراز طاقاته.خاتمة  سيتأسّس الدستور التركي الجديد، عقب الانتخابات البرلمانية التي ستجري في 12 حزيران/ يونيو 2011، وستهيْمن على عمليّة صياغته طبيعة خريطة توزيع الأحزاب السياسيّة في البرلمان الجديد التي ستعني هيمنةً سياسيةً وأيديولوجيّة لأحد التيّارات على هذه العمليّة، وبالتّالي على مستقبل تركيا المنظور.

لذا فإنّ أهميّة الانتخابات النيابيّة المقبلة مضاعفة التأثير، في مرحلة تطوّر تركيا الحديثة، تركيا ما بعد الكمالية.——————–

  • [1] للمزيد من الاطّلاع على تركيبة البرلمان التركي وتوزيع القوى فيه، وتفاصيل البرامج السياسية للكتل البرلمانية، يمكن زيارة موقع البرلمان التركي على شبكة الانترنت:http://www.tbmm.gov.tr/english/english.html
  • [2] تلعب الاتحادات المهنية (بالذات منها غرفتا صناعة وتجارة إسطنبول ووسط الأناضول) دوراً بالغاً في الحياة السياسية التركية إلى جانب الماكينة الإعلامية الضخمة التي تنتشر في البلاد.
  • [3] هذه التوقعات مأخوذة عن مؤسسة “كوندا” التركية لاستطلاعات الرأي، وهي مؤسسة شهيرة في عموم البلاد، وتُجري استطلاعاتٍ أسبوعيةً منذ شهور فيما يخصّ حظوظ الأحزاب السياسية في البرلمان القادم، ويمكن متابعة أبحاثها على الموقع التالي:www.konda.com.tr
  • [4] حسب قانون الانتخابات التركي الحالي، فإنّ الأحزاب السياسية التي لا تحصل على ما يعادل نسبة 10 في المئة من مجموع أصوات البلاد، فإن أصواتها توزّع على باقي الأحزاب التي تعدّت تلك العتبة، لذلك يمكن أن يحصل حزب سياسي على 39 في المئة من الأصوات ويستحوذ على 310 مقاعد من أصل 550 مقعداً في البرلمان، وهو ما يمثل 56 في المئة تقريبا من مجموع مقاعد البرلمان.
  • * يحقق حزب السلام والديمقراطية نتائج أقلّ من الحركة القومية في عدد أصوات الناخبين التي يفوز بها، إلاّ أن مرشّحيه يصلون إلى الهيئة البرلمانية لأنهم يخوضون الانتخابات كمرشحين مستقلين.

    بينما يخوض حزب الحركة القومية الانتخابات كقائمة حزبية.
  • [5] حزب العدالة والتنمية مجبر في كلّ حال على إيجاد نوع من التوافق السّياسي بينه وبين كافّة القوى السياسية، أو أغلبها في أحسن الظروف، عندما يتعلّق الأمر برغبته في وضع دستور جديد، لأنّ طبيعة عملية وضع الدساتير الجديدة في أي بلد تتطلّب ذلك الإجماع الوطني، وبالذات في بلد مثل تركيا، حيث أنّ الدستور حتى لو حصل على الأغلبية البرلمانية الدستورية، فإنه يمكن إسقاطه عبر الشّارع أو عبر المحكمة الدستورية.

    كما أنّ رئيس الجمهورية، بحكم موقعه الأدبي، سيرفض التوقيع على أيّ قانون لدستور لا يحصل على دعم أغلبيّة مطلقة من قوى المجتمع التركي.
  • [6] لقراءة وافية لمواد الدستور التركي، يمكن الاطّلاع على نصّه كاملاً على الرابط التالي: en.wikipedia.org/wiki/Constitution_of_Turkey
  • [7] لمتابعة يومية لمواقف الأحزاب التركية فيما يخصّ ملامح الدستور التركي الجديد، هذه روابط المواقع الالكترونية لأبرز القوى السياسية التركية:
    http://eng.akparti.org.tr/english/index.html
    www.chp.org.tr
    www.bdp.org.tr
    www.mhp.org.tr
  • [8] لمتابعة أهم تحليلات الكاتب الصحفي التركي البارز جنكيز تشاندار، وكتاباته عن الحجج المتبادلة بين التيارات السياسية التركية فيما يتعلق بالقضايا المستقبلية، يمكن قراءته على الرابط التالي : www.todayszaman.com/news-231386-candar-polls-kurdish-issue-new-constitution-will-occupy-agenda.html
  • [9] قدّم حزب العدالة والتنمية الحاكم في عام 2004 مشروع قانون لإصلاح الإدارة العامة في تركيا، حيث تم تمرير مشروع القانون من قبل البرلمان ولكن الرئيس أحمد نجدت سيزر اعترض عليه، وبقي مجمّدا منذ ذلك الوقت.

    ولم يكن مشروع القانون سوى تطوير لمشروع الرئيس التركي الراحل تورغوت أوزال، حيث كان قد طرح تغيير نظام الحكم من المركزية إلى الفيدرالية المتنوّعة.

    ورأى تقسيم تركيا إلى سبع ولايات فيدرالية، منها اثنتان بأغلبية كردية مطلقة (أرضروم وديار بكر)، ومنح تلك الولايات صلاحياتٍ دستوريةً اقتصاديةً وسياسيةً وشبه سياديةٍ واسعةٍ، حيث سيكون لكل منها برلمانها وحكومتها الخاصة، الشيء الذي كان سيقوي من انتماء مواطني تلك الولايات إلى حكومتهم المحلية الفيدرالية.

    وكان الاستشراف الأوزالي، يبتعد بالدرجة الأولى عن مفهوم الحلول الناجزة، ويمنح التطور الطبيعي للحكومات المحلية في كل أنحاء البلاد، وبذلك التأسيس لإمكانية الحل أساسًا.

    ويتيح المشروع تحييد فرص صبغ أي حل للمسألة الكردية على كامل البلاد، فالتعليم باللغة الكردية وتحويل اللغة الكردية إلى لغة رسمية، كان يمكن أن يثبت في دساتير الولايات الفيدرالية المحلية، دونما أن تتحمل وزر ذلك كل البلاد.

    لكن الملْمح الأبرز للخطة الأوزالية تمثّل في الرجوع إلى المساواة الجماعاتية بين المكونات المختلفة في الدولة التركية، لا الميل نحو المساواة الفردانية في المواطنة، كما تطرح الخطط الحكومية طيلة العقد الأخير.

    فالولايات السبع المطروحة، على الرغم من عدم طرحها العلني لذلك، كانت تخصّ كل طيف أثني وثقافي مذهبي بولاية، فولايتان شرقيتان للكرد وولايتان في الوسط، واحدة جهة الشرق لأتباع المذهب العلوي – مركزها محافظة ألعزيز – وأخرى للمذهب السني المحافظ حول العاصمة أنقرة، بالإضافة إلى ولاية شمالية خاصة بالعنصر اللاظي وأخرى ساحلية متوسطية للقوميين الأتراك، وأخيرة لذوي النمط المعيشي الأوروبي في مدينة إسطنبول.
  • [10] لمزيد من القراءة حول فرص التحول نحو النظام اللامركزي في تركيا، يمكن قراءة كتابات الباحث التركي جنكيز أجتر، على الرابط التالي: www.hurriyetdailynews.com/n.php?n=the-real-issue-decentralization-and-regionalization-2011-01-07
  • [11] أقرّ الاتحاد الأوروبي “الميثاق الأوروبي للحكم المحلي” عام 1985، لكنه لم يوضع في تركيا أبداً موضع التنفيذ، على الرغم من أن تركيا صدّقت عليه في العام 1993.
  • [12] ثمة مشهد عمومي في الحياة السياسية التركية من بداية تكوين الدولة التركية وحتى الآن يتمثل يتميز بفرز حادّ بين شكلين من القوى السياسية التركية، شكل يتمثل في القوى القومية العلمانية (تيار حزب الشعب الجمهوري) والتي تعلن خطاباً تعبوياً طوال تاريخها تحت يافطة “حفظ الدولة التركية من التيارات العقائدية المختلفة”، وثانٍ يتمثل في القوى الليبرالية الإسلامية (تيار حزب العدالة والتنمية) والتي ترفع خطاباً سياسياً تاريخياً تحت يافطة “حفظ المواطنين من جبروت الدولة ومؤسّساتها”.

    وقد كان التوزيع التقليدي الشعبي لحجم حضور هذين التيارين هو: 40 في المئة للقوى المؤيّدة للدولة، و60 في المئة للقوى المؤيّدة لحقوق المواطنين.

    وهو بالعموم مجرد عرف.
رستم محمود

باحث سوري مهتم بقضايا الأكراد في المنطقة.

حاصل على بكالوريوس في الإعلام من “جامعة دمشق” .

وهو طالب بـ”المعهد العالي للعلوم السياسية” بمدينة التل السورية، قسم الدراسات الدولية والدبلوماسية .

عمل كاتبا في القسم السياسي في صحيفة “الحياة” و”المستقبل” و”السفير” وموقع “الأوان” لعدة سنوات.

وهو باحث تحت الأشراف في مشروع “سوريا 2025” لدراسة تحولات المجتمع السوري، تحت إشراف الباحث محمد جمال باروت، كما عمل باحثا في مركز “فلورنسا – باريس ” .

واشتغل قبل ذلك باحثا في مؤسسة الفكر العربي ببيروت، وأعد لصالحها بعض الأعداد الخاصة من دوريتها الفكرية السياسية:”حوار العرب” عن “الإشكالية الكردية في الذهن العربي الراهن” و” العرب بعيون تركية” و” أين العرب من العملاق الروسي”.

ساهم في إعداد و إخراج سلسلة من الأفلام الوثائقية عن واقع “المهمشين” سياسيا في مناطق الشرق
الأوسط.
عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسيات .


www.dohainstitute.org/Home/Details?entityID=5d045bf3-2df9-46cf-90a0-d92cbb5dd3e4&resourceId=41b7e698-4775-4fd1-bdf0-edc02eb3d074 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين مؤتمر جامع في قامشلو على انقاض اتفاقيات أربيل ودهوك الثنائية لسنا وسطاء بين الطرفين ( الاتحاد الديموقراطي و المجلس الوطني الكردي ) وليس من شاننا اتفقوا او اختلفوا او تحاصصوا لانهم ببساطة لن يتخلوا عن مصالحهم الحزبية الضيقة ، بل نحن دعاة اجماع قومي ووطني كردي سوري عام حول قضايانا المصيرية ، والتوافق على المهام العاجلة التي…

شادي حاجي لا يخفى على أي متتبع للشأن السياسي أن هناك فرق كبير بين الحوار والتفاوض. فالحوار كما هو معروف هو أسلوب للوصول الى المكاشفة والمصارحة والتعريف بما لدى الطرفٍ الآخر وبالتالي فالحوارات لاتجري بهدف التوصّل إلى اتفاق مع «الآخر»، وليس فيه مكاسب أو تنازلات، بل هو تفاعل معرفي فيه عرض لرأي الذات وطلب لاستيضاح الرأي الآخر دون شرط القبول…

إبراهيم اليوسف باتت تطفو على السطح، في عالم يسوده الالتباس والخلط بين المفاهيم، مصطلحات تُستخدم بمرونة زائفة، ومن بينها تجليات “الشعبوية” أو انعكاساتها وتأثيراتها، التي تحولت إلى أداة خطابية تُمارَس بها السلطة على العقول، لا لتوجيهها نحو النهوض، بل لاستغلالها في تكريس رؤى سطحية قد تقود إلى عواقب وخيمة. لاسيما في السياق الكردي، حيث الوطن المجزأ بين: سوريا، العراق، إيران،…

شادي حاجي القضية الكردية في سوريا ليست قضية إدارية تتعلق بتدني مستوى الخدمات وبالفساد الإداري وإعادة توزيع الوظائف الادارية بين المركز وإدارات المناطق المحلية فإذا كان الأمر كذلك لقلنا مع من قال أن المشكلة إدارية والحل يجب أن يكون إدارياً وبالتالي حلها اللامركزية الادارية فالقضية الكردية أعقد من ذلك بكثير فهي قضية شعب يزيد تعداده على ثلاثة ملايين ونصف تقريباً…