سربست نبي إذا أردت أن تميّع مفهوماً, أو تشوّهه وتتحايل عليه, وتخلق بلبلة عنه, وتصرف الأذهان في المحصلة, يكفي أن تطلق عليه تسميات أخرى لتزيده غموضاً ولبساً, وتخترع له ألقاباً وأوصافاً ….الخ
ولا تشذّ الدولة ككيان عن تلك.
فالدولة وجدت أصلاً كي تكون سياسية تستمّد شرعيتها من أساس اجتماعي مدني.
ولهذا لم تكن تشكل دولاً بالمعنى الحديث لمفهوم الدولة.
ومن الخطأ, من وجهة نظر علوم السياسة والفكر, عدّها دولاً في الأصل والطبيعة.
لاعتبارات عديدة, منها غياب فضاء سياسي عام ومشترك.
واختزال السياسي فيما هو اجتماعي, وعدم التمييز بين المجالين.
من هنا لم تكن دولاً سياسية, ولا حتى مدنية.
إنما في أحسن الأحوال كانت مجرد سلطة إقطاع عسكري.
لا يصح التمييّز بين ماهو (مدني) و(غير مدني) من الناحية المنهاجية إلا حينما يتعلق الأمر بالسلطة.
فالسلطة السياسية هي عادة ما يستخدم بشأنها مصطلح (السلطة المدنية) أو (السلطة العسكرية)…الخ.
ومن النافل الحديث عن الدولة السياسية بوصفها دولة مدنية, لأن الدولة لا تكون أصلاً ما لم تتأسس على مجتمع (مدني) فهذا التأسيس من مبررات وجودها وشرط له.
ولا يمكن أن تكون هناك دولة سياسية حديثة من دون مجتمع مدني حيّ.
وهذا التعريف للدولة بصفتها سياسية, وللمجتمع بصفته (مدنياً) له جذره الفكريّ العميق وتأسيسه النظريّ اللذين يحولان دون الخلط بينهما بأيّ اعتبار.
لقد انتبه الآباء الأوائل للفكر السياسي الحديث, والمؤسسون لنظرية الدولة والمجتمع المدني, إلى هذا الجانب.
فقد استخدموا طوال قرنين منذ زمن الفيلسوف الإنكليزي (توماس هوبز) مصطلح الاجتماع/المجتمع (المدني) و(الكومنويلث) والدولة للإشارة إلى النموذج الجديد للاجتماع الإنساني بمواجهة الأشكال السابقة للاجتماع المدني وبخاصة (الاجتماع الطبيعي) كما افترضوا, قبل أن يصبح المجتمع المدني حيّزاً مستقلاً عن الحياة السياسية, ويغدو كل ماهو ليس من الدولة اجتماعياً.
ويُنجز الاستقلال التامّ بين المجالين السياسي والاجتماعي (المدني) مع ظهور النظرية الليبرالية.
لقد ساد هذا التصور الأولي لدى (هوبز) و(جون لوك) وآخرين.
والقول بالمجتمع المدني كان يعني الدولة في ذات الوقت لديهم, ويراد به المجتمع السياسي المنظم المنبثق من المجتمع البشري, لا من مصدر ديني مفارق.
وكانت السياسة, لدى هؤلاء, مدنية ودنيوية غير مقدسة, وليست شأناً لاهوتياً, كما كان الحال لدى فلاسفة العصر الوسيط مثل (القديس أوغسطين) و( توما الأكويني).
بهذه الدلالة استخدم هؤلاء صفة (مدني) ليس إلا.
في المرحلة التالية من تطور الفكر السياسي الحديث حيث تم التمييز والإقرار بالفصل العلائقي بين المجالين, مع مفكرين أمثال( آدم سميث) و(آدم فيرغسون) و( ستيوارت مل) و(توكفيل) وغيرهم.
صار الحديث عن الدولة بصفتها كياناً (سياسياً) والمجتمع بصفته كياناً( مدنياً) مستقلاً تماماً عن المجال السياسي ومجرداً منه, مثلما ليس للدولة من علاقة بالحياة (المدنية) إلا حينما ترتد إليها لتبرر شرعية وجودها.
وعلى العكس من ذلك بات التأكيد على ضرورة حماية هذا (المجال الخاص) أو (المدني) يستدعي أكثر فأكثر تعزيز التدابير الاحترازية ذات الطابع الوقائي التي تحول دون تعسف السلطة السياسية وتقييد تدخلها في الحياة (المدنية) جزءاً لا يتجزأ من التصور الحديث والمعاصر للدولة السياسية.
ففيه من اللغو والتضليل والخلط ما يثير الارتياب العميق.
وهذا الاختراع النظري غير الموفق لا يمكن أن ينسب إلا للمعارضات العربية عموماً, والإسلامية السورية بوجه خاص.
فقد أتت به في سياق التغييرات التي تعصف بالمنطقة, وشاءت عبر طرحه القفز على مطلب علمانية الدولة, كشرط لتحديث السلطة وتحوّلها إلى سلطة سياسية ديمقراطية, وتمكنت من إقناع أنصاف الليبراليين وأشباه الديمقراطيين بأهمية هذا الاختراع العروبي- الإسلاموي الوحيد في هذا العصر.
إنها تتحين, من وراء هذا المفهوم الزائف, احتواء التغيير الديمقراطي الحقيقي والملح وليّ عنقه نحو فخّ المفاهيم الأيديولوجية الفضفاضة كي تنقضّ عليه تالياً وتنسفه بترسانتها الأيديولوجية التكفيرية.
ذلك أنها حتى هذه البرهة لا تسلّم بضرورة تحديث الدولة ولا تؤمن بدمقرطتها إلا مواربة.
كما لا يمكنها قط أن تعلن بصراحة إن شرعية الدولة وشرعية كل سلطة سياسية هي دنيوبة وإنسانية, وليست سماوية مفارقة, طالما أنها لا تزال على اعتقادها العتيق بمفهوم( الحاكمية) و أن الإسلام دين ودنيا.
إن كل فكر سياسي ديني يتعارض مع تحديث الدولة ودمَقرَطة النظام السياسي, لأنه يتعارض في الأصل مع القول بالمصدر الدنيوي- البشري للسلطة وشرعيتها.
والسلطة والأيديولوجية الدينيتان ترفضان النظر إلى رعايا الدولة على قاعدة المساواة في المواطنة, وفي الحقوق الطبيعية التي تفرضها الطبيعة البشرية.
من هنا يغدو الحديث عن دمقرطة الدولة وتعدديتها من دون إعلان ضرورة عَلمَنَتها لغواً فارغاً وتضليلاً سياسياً وخداعاً.