29.09.2006
يبدو أن عمل المحقق البلجيكي بيراميرز، رئيس اللجنة الدولية للتحقيق في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الشهيد رفيق الحريري وعديد من الذين رافقوه، قد اقترب من نهايته، وعلى الرغم من كل التحفظ الشديد الذي أبداه هذا الخبير الدولي غيرالمنحاز إلا إلى عمله وواجبه، فإن أصابع الاتهام والتساؤلات تتجه نحو دمشق التي قام فيها بالتحقيق مع أكثر من 10 مسؤولين عن الأمن والاتصالات والإدارة فيها، وعلى الرغم من تأكيده على أن النظام السوري قد تعاون معه، إلا أنه يطالبه بمزيد من التعاون وإظهار الحقائق والوثائق، وكأنه يتهمه في الوقت ذاته بالتقصير وباخفاء أشياء وأسماء ومعلومات عنه.
إن اتساع دائرة النشاط الذي قام به هذا المحقق وطول الوقت الذي استغرقه في عملية جبارة لاعادة تركيب أجزاء لاتحصى من “الجريمة” مثل خبير جيولوجي يحاول بناء عصر ما من العصور السحيقة من خلال فحص دقيق لذرات التراب وقطع الحجارة وبقايا النباتات والأشياء الهالكة والمتعفنة، والصبر والسرية اللتين يتحلى بهما هذا الانسان، كل هذا قد أوصله، رغم أن حرباً مدمرّة حدثت في مكان الجريمة بيروت، إلى ذات النقطة السوداء الصغيرة على خارطة الكرة الأرضية والتي حامت الشبهات حولها منذ البداية وأثناء عمل زميله السابق له القاضي الألماني ديتليف ميليس: دمشق.
وهذا يعني أن نظام الاسد لم يعد يتمكن من الانفلات من شباك بيراميرز الدولية التي تم بها البحث عن المجرم الحقيقي والرأس المدبر لعملية الاغتيال تلك، وهي شباك قوية ولايمكن فتح ثقب فيها بسهولة… وكما أن الحرب الأخيرة لم تثن بيراميرز عن أداء واجبه، بل ربما كان توريط لبنان فيها جزءاً من مخطط استهدف ابعاد المحققين بصورة دائمة عن مكان الجريمة، فإن عقد محكمة دولية جنائية باتت في طور المعقول والمأمول، بل إن النقاش حولها يشتد، والتحضير لها يزداد، ويعمل القضاة والحقوقيون الدوليون من أجل ازالة العراقيل التي تظهر أثناء المقارنة بين القانون اللبناني والقانون الدولي المعنيين بالأمر، كموضوع حكم الاعدام إذا ما ثبتت الجريمة وغيره….
الفارق بين الأسد وصدّام هو أن الأول لايزال على عرش أبيه، يسير على وجه الأرض مختالاً فخورا، في حين أن الثاني قد نقل في ليلة دكناء من جحر في الأرض إلى معرض دعائي كبير ليصب جام حقده على الأمريكان الذين اغتصبوا عرشه وطردوه من عاصمة الرشيد، وليدعوا إلى “قتال الكفار والمشركين” من قفصه المهين أنصاره وأتباعه الذين هربوا في اللحظات الأولى من عمليات القصف تاركين أحذيتهم العسكرية وسرواليهم التي كانت ترعب البشر، ومستشهدا بآيات من القرآن الحكيم…
نظام الأسد يجد نفسه في مواجهة قانون دولي أما نظام صدام فإنه يحاكم من قبل العراقيين أنفسهم وفي قفص عراقي وبقانون جنائي عراقي… ولانتوقع أن يقوم أحد في العالم من كل تلك الدول والقوى والأشخاص الذين أمدهم بالمال والبترول وأغدق عليهم بالهدايا الثمينة بانقاذ صدام من ورطته الكبيرة هذه أو يبرئه من جرائمه الكثيرة، كما فشلت من قبل كل محاولات الرئيس الفرنسي “شيراق!” وغيره لمد يد العون لصدام بهدف تخلي أمريكا عن اسقاط نظامه… وسبحان الله، فإن شاهداً كوردياً في محاكمات الأنفال الأخيرة، كان قد خدم في الجيش العراقي وأسر من قبل الايرانيين في الحرب ثم عاد بعد سنين عديدة ليعلم بأن صدام وجنده قد قتلوا زوجته وأولاده ونهبوا بيته، قد قرأ على مسمعه هذه الآية الكريمة: ولاتحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون…(ابراهيم / 42)
إلا أن الخيال الذي وجدناه في “كليلة ودمنة” يصبح أحيانا حقيقة وواقعاً، فتفلت الأسود والنسور من الأقفاص المعدّة لها، ويصبح المحكوم بالاعدام في آخر لحظة ملكاً يحكم هو بالاعدام على جلاّديه، وإذا الخادمة المهانة تكتشف بأنها بنت السلطان، فيتحوّل شقاؤها إلى خبر كان…..
ففي وضع سوريا يختلف الأمر، إذ أن نظرة الأوربيين لأسباب تتعلق بالبترول الذي لا تملكه سوريا الأسد وبعلاقات فرنسا وغيرها مع لبنان العميقة في التاريخ، تقترب من نظرة الأمريكان حيال المحاكمة الدولية في قضية الاغتيال هذه، ولاتزال هناك سيناريوهات محتملة قد تنفّذ وينفذ معها نظام الأسد من الهلاك المحتوم…
الجميع بما فيهم الولايات المتحدة الأمريكية وانجلترا واسرائيل لايريدون وضعاً شبيهاً بالذي عليه العراق اليوم في سوريا المتاخمة لاسرائيل، حيث قد يشكل مثل هذا الوضع خطراً مباشراً على اسرائيل ولبنان من خلال تدفق التكفيريين الإرهابيين إلى سوريا…وبخاصة فإن جبهة الجولان ظلت منذ حرب عام 1973 وإلى الآن هادئة تماماً ولايمكن لأي أحد العبور منها إلى الأراضي المحتلة من قبل اسرائيل، دون علم نظام الأمن السور، ولأن نظام الأسد يقوم بواجبه في هذا المجال على أفضل وجه…
لاسرائيل ولنظام الأسد، رغم تباين مواقفهما من لبنان وحزب الله وايران، مصالح مشتركة تقرّب بينهما يوماً بعد يوم، ألا وهو احتمال اشتداد عزم الإخوان المسلمين الذين يطرحون أنفسهم كبديل لنظام الأسد ويبنون علاقاتهم الدولية بصبر وأناة، وانتزعوا من البعثيين نائب الرئيس السوري، وبالتالي فقد تقوى العلاقة مستقبلاً بين البعثيين والإسلاميين فيشكلوا معاً خطراًً على دمشق، وبالتالي تزداد المطالبة بالجولان وغيرها وتقوى النزعة الوطنية للدفاع عن “المقدسات العربية” كالوحدة والعروبة والأرض وما إلى هنالك من نقاط لايختلف عليها البعثيون والاسلاميون في شيء…
نظام الأسد يبحث عن منقذ من شباك بيرامرتز الدولية القوية، واسرائيل تريد استمراراً لأمن حدودها الشمالية… وهنا يمكن أن تقصر المسافة بين دمشق واسرائيل، وتتحول هضاب الجولان المسيجة إلى حدائق للقاء الأصدقاء والجيران، فيفلت بذلك الأسد من المصيدة وتحصل اسرائيل على ما تريد دون خسائر أو ارهاق… ما عدا بعض المصالح المشتركة الأخرى مثل التجارة والسياحة والمياه والتي لاحاجة للتطرق إليها بإسهاب هنا…
ولماذا اسرائيل دون غيرها؟
إن العالم العربي لايريد أن يدعم رجال نظام تتوجه إليهم تهم اغتيال رجال نظام عربي آخر، ويتعرّض حقيقةً إلى ضغوط متزايدة من أجل عزل هذا النظام الذي لم يبق أمامه منفذ أومنقذ سوى اسرائيل، فايران المتهمة مثله في سلسلة جرائم اغتيال لها مشاكل أخرى وهي معزولة أيضاً…