نزيف الفيسبوك

إبراهيــــم محمود
 
مهما اتسع نطاق الحديث حول الفيسبوك فيما يُعلِمنا به، أو ما يمكن الاختلاف عليه، وما يتعلق بجملة هؤلاء الذين يمثّلون مجتمع الفيسبوك: بأولي أمره البعيدين عن الأنظار هنا وهناك، والمأخوذين بغواياته في الصور التي تؤكّد نسبَها إلى الواقع، وتلك المركَّبة، وتلك المولَّدة من الحالتين، والذين يتفسبكون أبطالاً أو في زمرة الأبطال الفيسبوكيين ومن هم مادة شغَّالة لهم وللفيسبوك بالذات ومن يكونون ضحايا له ومن أعمار مختلفة…الخ ، يبقى ما يجب الاعتراف به، وهو أن ثمة متحولات اجتماعية مضطردة تمارس تأثيرها الفعال في بنيتنا النفسية والفكرية والاجتماعية، ثمة دراما مغايرة لكل ما ألفناه تاريخياً حتى الأمس القريب في مسلسلاتنا اليومية وأفلامنا وحتى في حكاياتنا المتداولة عما هو يومي:
دراما ذات شحنة لافتة بحدتها وشدتها واختلاف مدتها، أسهمت الصورة في إيجادها وتدشين سلالة من الصور المستولدة في إثرها، وبالتالي تجلّي مشاعر مختلفة وأحاسيس مختلفة، تتناسب ومشهد الصورة التي لما نزل نعيش تشكيلها في عالمنا الراهن، وفي العالم الراهن أكثر من غيرها لأسباب موجبة وجوب العنف الذي لا أحد يستطيع التنكر لطابعه المتعدد الأشكال ومن أعلى الهرم الاجتماعي والسياسي، أما على المستوى القاعدي فهو ترجمان محلَّف يغري بقراءة الملتقط فيه، بوصفه شديد التماس بالأول ومحال عليه كثيراً لنشهد في هذا المتَّسع الدرامي كما هو الحال في حساب إنساننا الجاري، نزيف الفيسبوك عينه، بمجرد تلمس المنشور باسمه أو في بياضه المغلوب بحمرة الشفق كما لو أن الفيسبوك يحدد لحظة ولادته ومنشأها ومن يكون الحامل أو حتى القابلة التاريخية: قانون التغير التاريخي في المكبوت المجتمعي بأكثر من معنى.
سيقال: ثمة تضخيم في الكلام، وثمة تصعيد بالعنف نفسه، وإيقاف العمل بمبدأ الفيسبوك ذاته، ربما، بما أن عنفاً انشطارياً يعايَن بالطريقة السالفة الذكر، يحول فسبكة العلاقات: أي جعل التواصل تفاصلاً، لكنه الكلام الذي يتضح في واقع حاله عند النظر في أصوله الكبرى: كيف توافرت عدته وأبرزت أبعادها الاجتماعية والسياسية، وصار في الإمكان إضفاء جانب المحلية أو القيمة الاجتماعية الخاصة عليه، إذ كان المشهود له مختلفاً في عالمه الآخر: التقني منه والثقافي العام قبل كل شيء.

إنها حالة عولمة تستجيب لتحديات هي صراعات قوى، لنجد في نطاق ما نعيشه نحن” محلياً- إقليمياً” ما ليس في الحسبان لدى أولي الأمر أنفسهم، وحتى بالنسبة للذين لم يكن في مقدورهم أن يعبّروا بصراحة نسبية عما يجري من متتاليات عنف في وسطهم.

إن الموتى أنفسهم يمكن الشعور بحضورهم فيما يتنشط فيسبوكياً، وقد ضُمَّوا دلالياً وهم في كثرة مشهودة منهم ضحايا الأمس القريب، إلى عالم هؤلاء الذين اكتشفوا جرَّاء العنف المولَّد فيهم، عنف يعني قهراً أو هدر الإنساني غالباً، اكتشفوا ما كانوا يحفزون على معايشته في الحلم، وها هو واقع فعلي يتأفق لهم” يمنحهم أفقاً”، ليكون لـ” لائهم” أثر صاعق كهربائي لمن تعوَّدوا سماع” نعم” من ممثّلي قوى متفاوتة بدءاً بالأب العائلي وانتهاء بالأب المجتمعي والتاريخي المخضرم.
إن النزيف المقدَّر في الفيسبوك ليس أكثر من إماطة اللثام عن التراكم التاريخي الذي لم يغفل عنه أهل الاقتصاد والسياسة وحتى جموع الشعراء في محيطنا المثقل بخطايا رموز سلطته والقيّمين على حياته وموته، بقدر ما يكون المقروء في نصوصهم بغضّ النظر عن مدى دقتها، تعبيراً حرّيفاً عن فداحة المسيَّر بعنف عقابي هرمي.
يعني ذلك أن أي حديث عن وجود فوضى فيسبوكية، عن هواة شغب وشغوفين بالتشويش على سواهم، من باب لفت الأنظار إليهم، وهذا يتطلب مبحثاً آخر لتبين عالمهم الداخلي نفسياً، حديث لا يعفي نفسه من ضرورة مقاربة انجراحات تترى بصيغ شتى داخلهم، لها صلة بالتهميش المجتمعي المريع، وتكميم الرغبات، والحث على تزييف الذات، والإيحاء الوهمي إلى أن كل شيء هو على ما يرام، أي : ليس بالإمكان أفضل بمما كان، إنه الحديث الذي يقودنا إلى المنتظَر نفسه إزاء ما سُطّر هنا، وما هو دالٌّ على عنف القائم بالذات، وهو أن الذي يجري في العالم العربي، يشهد على وضع قياماتي، لعله ترجمة دقيقة لـ”لا” ذات صبغة شعبية ما، على الضد من” نعم” ذات علامة شعبوية محروسة ومعزَّزة كما لو أن لا وجود لـ” لا” قاعدية المنشأ، إنما” نعم” مخدومة هرمياً بعنف..
إن كل تعليق وجيهاً للفيسبوك، يتركز على ضعف المصداقية أو يسمّي شبهاته السبع، إن جاز التعبير التليد، لا يغيّر من حكمة الاعتراف بحقيقة مدماة تخص الذين جرى النيل منهم، أو اصطيدوا في برية المدينة العربية أو اُقتنصوا في وضح النهار العربي السياسي المريع، أمام أعين عالم كامل، عالم ربما يتملكه الخجل كونه المصدر الرئيس لعدة الفيسبوك وتقنياته ذات الصلة بالمرئيات المباغتة، نظراً لوتائر العنف الدامي ووحشية الممثَّل في البرية الآنفة الذكر، أي لوجود ضحايا أرادوا أن يعلموا أولي أمرهم أنهم أكبر من ” نعم” تحتكرهم، عبر” لا”تستوجب النظر في سلسلة ميتاتهم المتعددة المشاهد، وهم فيما عبَّروا عنه ليسوا أكثر من تجسيد حِرَفي دقيق لما كان أولو أمرهم أنفسهم يقولون فيهم بـ” الشعب العظيم”، إنما هذه المرة تكون العظمة كما يصرّفها هم قاعدياً.
اللحظة الفيسبوكية تختصر تاريخاً مديداً شديد الوطأة، كما لو أنها تستنطق أطلالها لسماع شهادة من مضوا حتف أنفهم اللاطبيعي وصيروا في حُكم الشهداء، ليكون هؤلاء شهداءَ زور على طريقة موت سيقوا عبرها عنوة.
إن عنفاً دموياً يسهل النظر في وقائعه كل آن وحين راهناً عبر شهود عيان من لحم ودم، وشاشات التلفزة ذات اللغات المختلفة، ربما يتعدى سقف الفيسبوك بالذات، إن قُدّر نوع العنف وقوته والمراهَن عليه عربياً، لعله العنف الذي لا يرفض نظاماً بالجملة، باعتباره يعمل وفق نظام معين، إنما ينشد نظاماً لا يعود هو نفسه عنفاً مستشرياً، بقدر ما لا يعود في الإمكان معايشة العنف ” المذموم” و” المكذوب” هرمياً، إنما هو نظام مطهَّر من العنف ذاك.
إن الحديث عن الفيسبوك الذي يقلّل من احتمال بقاء العنف بالوتيرة ذاتها، رهن المتغيَّر المأمول في من اعتاد العنف سبيلاً أوفى لدوام رهبته، حديث يقوم على اعتراف لا مناص منه، بأولئك الضحايا وهم بالمئات في الشارع العربي، وثمة جلادون يتمتعون بحصانة لا تخطئها العين هنا وهناك، جلادون متنفذون بعنفهم: بحربهم الطويلة بأكثر من معنى، على سلم أهلي بأكثر من معنى، حرب مبارَكة من أولي البلد، لا تعفي أحداً من مسئولية الجاري في الخراب الذي يشمل البلد وهو ينال من العباد، إنها حرب منظمة، على الضد من السلم المنظَّم والقاعدي.
فلنسمّ لنكن أكثر إخلاصاً للحظة السلام المرتقبة، كما يعيشها الأهليون في جملتهم: إن الدماء التي أريقت في شوارع البلد” بلدنا العزيز سوريا”، كما هي عزة أي بلد آخر في نفوس أهليه، وهي شوارع تسميها ضحايا من الرجال والنساء، الكبار والصغار، ضحايا صعقتهم حراب “أهليها” وسرّعت في موتهم أكثر، في درعا بانياس وحمص واللاذقية وجبلة وحماة والسويداء والرقة ودمشق والبيضا ودير الزور…الخ، لهي دماء تسمّي قتلتها.

إن الخيانة الوحيدة التي تستحق التسمية بحق البلاد والعباد، هي أنها خارج قاموسها المعتاد، خيانة تعاين رموزها المعتبَرين، خيانة أريد لها أن تكون تأديباً جماعياً أو أفرادياً على إثم متعال ٍ، لم يكن ذلك في ذمة الضحايا ومن سيكون في خانتهم لاحقاً، وهو ما يضاعف من حساب الصادر والوارد السلطويين، من حزم القائم بمقام الحكم الفصل وإليه تتجه الأنظار، ما إذا كان من سبيل لتسمية الضحية ضحيةً والقاتل غير  الغفل من اسمه قاتلاً وتطهيره من لوثة العنف المربَّى فيه، وهي المحاولة الأم للشعور بأن وضعاً مجتمعياً ما، مغايراً لنظير له لا يطمئن إليه أحد، حتى الجلاد المعتبَر نفسه، هو الوضع الذي يتنادى إليه ذووه.

إنها ليست اللحظة التي تستدعي غفراناً أو تسامحاً، لأن الضحايا الذين مضوا في رعبهم الوطني بامتياز، ربما، لا يطلبون من الأحياء، من أقربائهم وأصدقائهم وأحبتهم وأناسهم، سوى أن ينسوا أنهم متعطشون لدماء قتلتهم حتى ترتاح أرواحهم، إنما أن يُحتفى بهم في نظام معزز بـ”نعم” و”لا” معاً!.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…