هذه الممارسة القرون أوسطية لم تعد صالحة في زمن التقنية الحديثة التي قضت على قدرة أجهزة الارهاب المرتبطة من منع الاجتماع لأكثر من شخص، كما لم يصبح بامكان رجل الأمن من ملاحقة ومراقبة الاجتماعات والندوات والمؤتمرات المتباعدة التي يكون المشتركون فيها من أصقاع متباعدة يديرون مناقشاتهم وطروحاتهم.
في ظل هذه التقنية وهذا الجيل الشبابي الذي هو ابن عصره أصبحت القوى الكلاسيكية التي تدير البلدان شيئاً من الماضي، وخاصة أثبتت تلك القوى الكلاسيكية بانها لم تكن في الاصل فاعلة لا في مجتمعها الوطني ولا في مجتمعها القومي ولا حتى في المجتمع الدولي، فكانت تجربة الكثير من الاحزاب ومنها حزب البعث العربي الاشتراكي والأحزاب القومية الاخرى من عربية وكردية وكلدوآثورية وكذلك الاحزاب الاشتراكية و الدينية كلها كانت فشلاً ومساهمة في زيادة التناقض بين الشعب الواحد وطنياً وقومياً، والتجربة السورية في انتفاضتها أو ثورتها أو احتجاجاتها كما تسميها القوى المختلفة حسب رؤاها تجربة ثرية في حجم التناقض وربما وصلت في بعض جوانبها الى العداء بين أبناء الشعب الواحد.
ففي سوريا حيث حزب البعث الذي امتلك قدرات الدولة كاملة من بشرية واقتصادية وسياسية وفكرية ونضالية باسم القومية العربية والوحدة وبعد خمسون عاماً من قيادة المسيرة لم تصل سورية الى درك أسفل مما هي عليه اليوم، ففكرة الوحدة العربية أصبحت شئ من الماضي، أما فكرة القومية العربية وقيادتها لم تستطع قيادة البعث الحديث عنها منذ زمن، ولم ترضى الدول العربية أصلاً أن يكون حزب البعث وسوريا قائدها وخاصة بعد رحيل الرئيس حافظ الاسد الذي أستطاع بحكمة أن يحوذ الى حدٍ ما على ثقة الساسة ورجال الدولة العرب والاجانب حسب ما استدعته الظروف السياسية في تلك المرحلة، أما في مرحل الرئيس بشار الاسد فيبدوا واضحاً وحتى قبل ثورة الشباب في المنطقة العربية بدأ واضحاً حجم التباعد العربي عن سوريا بغض النظر عما يدعيه النظام السوري من التواطئ العربي الامريكي، أما داخلياً فكان حجم ودرجة الاحتقان واضحاً لدى الشعب السورية إلا اللذين كانت على عيونهم غشاوة وقد أسمعت الاحتجاجات ـ كما قال المتنبي ـ من به صمم، هذه كانت نتيجة حكم الحزب الواحد بفكره الثوري في الوحدة والحرية والاشتراكية، فكانت افرازات الدعوة الى الوحدة مزيداً من التفكك، ومن افرازات الدعوة الى الحرية تقييدها وحجبها وقمع وهتك أعراض المطالبين بها، أما الاشتراكية فهي دلت على نفسها بنفسها.
أما فصائل الأحزاب الكردية في سوريا والتي تعتبر هي الأخرى كلاسيكية، وبعكس الحزب الحاكم في سوريا فهي لا تملك من القوة بكافة أشكالها الا الحديث عنها، وهذا ربما لا يعيبها بسبب القمع والاستبداد في البلد ولكن الذي يدفعنا الى الحديث عنها هو نشؤها الذي عاصر الحكم الديمقراطي أو الشبه الديمقراطي وحالة التعددية السياسية في سوريا ولا زالت تعيش في عزلة من الحراك السياسي السوري بشكل عام والحاضنة الوحيدة التي جمعت مجموعة من الاحزاب السورية ـ بمختلف اتجاهاتها الفكرية ـ ومنها الكردية لكنها مع ذلك تبدو معزولة فلا تؤثر ولا تتأثر بما يجري في الداخل السوري من احتجاجات مطالبة بالحرية والكرامة، واسقاط النظام.
بالنسبة للقوى العربية السورية من قومية ودينية يمكن حصر الصراع على اختلاف المنهج السياسي مع حزب البعث الحاكم بالنسبة للبعض، أما بالنسبة للبعض الآخر فالصراع دائر على المشاركة في االحكم، ورغم عدم شدة الصراع الا ان النظام لم يتكرم عليهم المشاركة السياسية بأقله رغم ان مشاركة الجميع في ادارة البلاد ليس مكرمة بل حق من الحقوق التي يجب تعطى وتمارس وتصان،فصراع القوى السورية لم تكن يوماً من الايام على الوجود القومي، فسوريا دولة عربية واللغة العربية هي الرسمية ولا حرية للغات الاخرى من التداول، أما بالنسبة للكورد فالنضال الذي قارب على أعوامه الستين منذ قيام المؤسسات أو الجمعيات الشبابية التي سبقت نشوء الحزب الكردي الاول كان الصراع صراع وجود وليس نهج، ورغم تعاقب الحكومات ذوات العمر القصير باستثناء حكم حزب البعث أصبح حال الكرد من سوء الى أسوأ، وكان واضحاً من منهاج حزب البعث بانه لا مكان إلا للعرب في سوريا، ليس بمعنى ابعادهم ولكن بمعنى صهرهم في البوتقة العربية، ولا زال نفس المنهج ثابتاً لم يتزعزع، فهل ينصب نضال الكورد وحركته السياسية من أجل زعزعة ذلك النهج؟؟؟
لدى الالمان مثل مشهور وهو “ ان جميع الاسئلة مشروعة ولكن الاجابات تكون غبية “ .
فمن حق الجميع أن يكرر ذلك السؤال أكثر من مرة ويطابق النضال الكردي مع ذلك السؤال.
ان النضال على مدى الستين عاماً من عمر الحراك الكردي أزدادت الاجراءات القمعية يوماً بعديوم مستهدفة وجوده القومي، وفي هذه الأيام نعيش حالة مشابهة بل متطابقة مع حالة كنا نعيشها في صبانا حيث كان السائد لدى شعبنا الامي بمعظمه في تلك الفترة عن ظاهرة الاهتزاز الارضي الخفيف في مناطقنا الكردية بان الكرة الارضية محمولة على كتف الحوت وما أن يتعب الكتف حتى يحوله الى الكتف الآخر فيهتز الارض، وفي هذه الايام والاحتجاجات الشعبية تعم سوريا عامة تتكرر مقولة يترددها قيادي متنفذ من أحد الاحزاب الكردية بمقولة “ حجرنا في يدنا، وحجرنا كبير وقوي نقذفه متى ما نشاء “ وكل خوفي ألا يكون مصير ذلك الحجر البقاء في اليد، ولكن الخوف الأعظم كمثل الحوت عندما يتعب ذلك اليد فيتحول الحجر الى اليد الأخرى ولاينتج من عملية نقل الحجر لل زلزالاً ولا وخزة في أيدي النظام.
لا شك بان الاحتجاجات المنطلقة من درعا وكافة مناطق الحوران واللاذقية وبانياس وحمص وغيرها أثرت فعلتها في اقدام السلطة على الكثير من الاصلاحات بغض النظر عن تطبيقها، ويبقى صراع الوجود الذي من أجله أنبثقت الاحزاب الكردية خارج تلك الاصلاحات بفعل غياب القوة الكردية المؤثرة، ومرة أخرى سيخرج الكرد من المولد بلا حمص وخاصة بعد صدور قانون الاحزاب الذي من المؤكد لا يشمل الاحزاب الكردية وعندها ستتحول القضية الكردية الى قضية ترخيص الاحزاب الكردية.
ان الفرصة التي ضيعتها الاحزاب الكردية نتيجة لتقييمهم الخاطئ للنظام وقرائتهم الخاطئة للأحداث ووقوفهم ضد الحراك الجماهيري في الشارع الكردي ـ رغم اننا لم نكن من الطالبين للاحزاب الكردية الى الاشتراك في ذلك الحراك بقرار حزبي ـ هي ضياع للوجود الكردي، وما زال تهافت البعض من الاحزاب الكردية على الجهات الامنية في دمشق قبل عيد نوروز وجلساتهم مع السلطات المحلية موضع السؤال، حيث يبدو ان اشتراك السلطات المحلية في عيد النوروز وسحب الصور الفوتوغرافية معهم كان بديلاً عن الاعتراف بوجودهم.
أما مسألة الحوار الوطني الذي أستقاه الاحزاب الكردية من بعض الشخصيات العربية النشطة وتقديمهم لورقتهم الخريفية لا يمكن على الاغلب أن يجد صداه في حالة الشرخ بين الاحزاب الكلاسكية والحراك الجماهيري وخاصة هناك دعوات شديدة ونحن منها بان الحوار يجب أن يكون مع الذين يقودون الاحتجاجات وكذلك المعتقلون على خلفية نشاطاتهم الميدانية.
الورقة الكردية الخريفية الآيلة للسقوط كان من الواجب ايجاد مقدمات لها قبل تقديمها فبغياب تلك المقدمات ستكون ورقة مصفرة ذابلة آيلة للسقوط .