من ديركي إلى الفاتيكان

علاء الدين عبد الرزاق جنكو


وقف السفير البابوي مع المسؤولين على باب بيت الملا أحمد مفتي مدينة ( ديركا حمكو ) بعد أن سأل عن أسباب عدم استقبال علماء المسلمين له أثناء زيارته لكنائس ( ديريك ) ، خرج الملا أحمد بهيبته المنسوجة من تاريخه العلمي وتواضعه المعهود ، مستقبلا البابا طالبا منه أن يتفضل بالدخول لبيته المتواضع والتاريخي ، الذي ما تعود السفير البابوي رؤيةرجال الدين يسكنون مثله !!
طبعا الملا أحمد أنكر على البابا عدم إخباره رسميا بالزيارة في دار الفتوى ، فالزيارات الرسمية لها بروتوكولات خاصة !!
ودار بينهما – وهم واقفون – نقاش سريع ، عندما أبدى السفير إشفاقه على بيت الملا أحمد قائلا : ألا يهتم بك المسلمون وأنت المفتي ؟ أين احترامك بينهم ؟ نحن لنا قيمة بين أتباعنا .

أجابه الملا أحمد : إنكم تستطيعون أن تسخروا من عقول أتباعكم وإقناعهم بكل ما تقولونه من كلام حتى لو كان باطلا ، لذا تنالون منهم ما تحتاجون ، أما نحن فلا نستطيع.
أنكر السفير كلامه ، ونعته بعدم صحة ذلك ، وأن المسلمين هم أصحب هذه الصفة ، أراد الملا أحمد أن يثبت له صحة كلامه ، وبسرعة بداهة ، نادى أحد الأطفال الواقفين عندهم ، فجاء الولد ، سأله الملا أحمد هل تحفظ سورة المسد ؟ قال ( بالكردية ) : أري سيدا .
وطلب منه قراءتها ، وعندما وصل إلى قوله تعالى : ( وامرأته حمالة الحطب ) .

قاطعه الملا أحمد : نا نا نا لاوو  ،  نه ( الحطب ) يا راست ( إمرأته حمالة الخشب ) .
رد الطفل بكل ثقة وصلابة : أقسم بالله أنها ( الحطب ) وليس الخشب .
قال له المفتي : أنا أقول لك ( الخشب ) أنا المفتي ، رد الطفل : كن من تكون ، أنا رأيتها وقرأتها في القرآن ( الحطب ) .
ابتسم له الملا أحمد وقبله ، وقال للسفير : هذا الطفل الصغير ما استطتعت أن أغير له لفظ واحد من القرآن ولم يقبل أن يطيعني وأنا أقف مع سفير دولة !!  على الرغم أن معنى ووزن الكلمتين واحد !! فكيف سأغير عقول الناس ، يا سفير البابا أنا لا أملك مقولتكم : ( أطفئ سراج عقلك واحمل صليبك واتبعني ) ..

فبهت سفير البابا وربما ندم على زيارته تلك ..
من ( ديركا حمو ) أبعث بهذه القصة إلى كل من سمع كلام بابا الفاتيكان وتأثر به ، وخاصة عن علاقة الإسلام بالعقل واحترامه …
أما الإسلام والسيف فهي القصة القديمة الحديثة ..

النغمة التي مللنا منها ومن سماعها لتكرارها ، بالمناسبة سمعتها منذ أكثر من عشرين عاما ، ومن أبناء المسلمين أنفسهم !!! الذين كانوا يفتخرون بأنهم ليسوا مسلمين إلا بالهوية ..
على أنها خرجت هذه المرة من شخصية غير عادية يمثل قمة الهرم الديني للديانة المسيحية ، مقالتي هذه عبارة عن مظاهرة من نوع آخر ضد كلام البابا التزمت من خلالها بنصيحة أصدقائي العلمانيين ، أولئك الكتاب الذين يدعون إلى السلم والسلام وعدم الرد حتى لو جعلك خصومك كعصف مأكول !! هي دعوة مثالية قد يكون لها مكان في عالم الميتافيزيقيا وبين مخلوقات غير بشرية خالية من النزوات النفسية والشهوات الدنيوية …
عادتي أخرج من الموضوع لكني سرعان ما أشعر بذلك ، أتمنى من قارئي عدم لومي ، فكلام البابا جرح مشاعري كما جرح مشاعر الملايين ..
وانتظرت أقلاما حرة تدافع عن الإنسان الغائب – وأقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم – والرد على من أساء إليه ، كموقف نبيل وإنساني ، وخاصة من كتاب بني جلدتي المقاتلون من أجل احترام الآخر وعدم جرح مشاعره ، كما أني لم أبادر للكتابة تاركا هذا الشرف لبعض المخالفين لي في بعض آرائي وتوجهاتي من جهة ، والقيام بواجب الدفاع عن عقيدة شعب بأكمله ينتمي إليه الكاتب من جهة ثانية ..

لم أجد من قام بذلك إلا وقلل من أهمية كلامه في رسول الله من خلال التركيز على أعمال الإرهابيين والقتلة المجرمين من المسلمين ، ليخففوا النقمة على السيد البابا من حيث لا يشعرون ..
ومن جهة ثالثة حتى لا يؤخذ كلامي بأنه ردة فعل عاطفية على رجل نال من أشرف مخلوق عندي ، وعدم اتهامي بأنه موقف شخصي ..
أما ما قاله البابا من كلام اقتباسي على نبينا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم بأنه ما جاء إلا بالشر ، أعتقد أنه كلام عمومي في غاية السخافة والسفاهة ، ولا يخلو من ذبذبات حقدية وحسدية ، ولا يستحق الرد ؛ لأنه يدخل في نطاق السب والشتم لا النقد العلمي.
أما المسألة التي طرحها الرجل – الذي برأ قتلة نبيه من جريمتهم – بأن الإسلام دين انتشر بالسيف والقوة ، ولا يقيم للعقل قيمة وأنه ضد العلم ، مسألة سأقف عندها .
ولولا أن بعض البسطاء من أبناء المسلمين ممن ركبوا سفينة العلمانية وبعض من يقودها منهم توفقوا باهتمام لسماع هذه التهمة ، بل راح البعض يبرر كلامه بطرق إلتوائية ، وقد يكون هذا التبرير ؛ لأن البابا كرر ما ردده العلمانيون منذ عشرات السنين !!
نعم لولا ذلك ، كلامه هذا ، أيضا لا يستحق الرد كوني مقتنع بعكس ما قاله عن الإسلام ، فالحمد لله على الرغم أني ولدت لأبوين مسلمين فأنا بكامل حريتي الاعتقادية ، في وقت يحظى المرتد عن الإسلام بكامل حريته بل ربما يُقَلَّد بعض الجوائز الكبرى على ذلك !!!!
كلام البابا أيا كان سببه ، سواء كان فتوى دينية لتقف وراء القوة السياسية للعالم الغربي الذي لا يستحي أبدا من وصف صراعه مع الشرق منذ سقوط المعسكر الاشتراكي بأنه صراع عقدي ومن قبيل صدام الحضارات ، أما الببغائيون من المعجبين بهم – ومع احترامي لهم – ينفون عنهم اعترافهم هذا ليزيلوا عن أنفسهم حرج نكران الذات ..
وأعتقد أن كلاما مثل هذا طبيعي أن يخرج من البابا ، وهو يرى بأم عينيه أن المسيحية على الرغم من كل إمكانياتها الهائلة ، والتبشير المستمر لها والدعاية الباهظة التي في خدمتها وإرفاق ذلك بالكلام العسلي السلامي المحبي المودي ، يرى أن المسيحية كدين في نقصان في جميع أنحاء العالم وخاصة في عقر دارهم ، قد لا يكون الأمر بالحجم الكبير ، لكنه مع مرور الزمن يصبح هائلا ، وهو ما جعل الإسلام يقفز كدين ينافس المسيحية على تبوء صدارة الأديان انتشارا في الكون …
في الوقت الذي يُسَخَّرُ كل ما هو متاح من تشويه لصورة الإسلام ، ونهب لثروات المسلمين والدعاية المسيئة لدينهم بوسمه بكل ما هو شرير ، والصاق كل الإرهاب في العالم بهم وبدينهم ، وسوء تصرفات المسلمين أنفسهم من قتل وإرهاب ، على الرغم من كل ذلك ،  تتفاجأ بأن ما يقارب من ثلاثين ألف أمريكي يدخلون الاسلام سنوياً منذ عام 2001م أي بعد أحداث 11 سبتمبر !!!
وترى عجبا آخر أن جريدة ( بيرلنسك تنن ) الدانماركية نشرت : إن الإسلام وجد الإقبال بكثرة منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 حيث اتجه الكثير من الدنماركيين – وبالذات الشباب منهم – نحو الإسلام .

طبعا هذا الأمر أقلق الكنيسة الشعبية ، ومن بينهم رئيس قساوسة مدينة “فيبورغ”،كارستن نيسن الذي قال في تعليقه : ( إذ أن دخول 2500 دنمركي الإسلام زيادة عن الحد المعتاد وفي فترات متقاربة يجعل من الأمر مشكلة المشاكل هناك ) .

وذكر القس كارستن نيسن للإذاعة الدنماركية : ( أنه علينا أن نوضح الفرق بين المسيحية والإسلام وأن نستخدم طاقاتنا لتجميل صورة النصرانية عوضا عن بذل الأموال من أجل البناء خلال السنين القادمة ) .
وأعتقد أن كلام البابا هذا جاء تطبيقا لحديث هذا القس ، الذي دق ناقوس الخطر لمستقبل المسيحية ، فجاء البابا ليجمِّل صورتها ، ليس بالحديث عن مبادئها ، وإنما بسب وشتم الديانة المنافسة لها ، بعد أن فشلت عمليات التبشير للمسيحية في كل أغلب مناطق العالم بإمتياز .
لا أريد أن أكرر ما ذكرته سابقا في مقالاتي ، من بيان لقيمة الإنسان في الإسلام ، وأنا أتحدث مع عقلاء يفرقون بين المبادئ وبين تصرفات من يُنْسَب إليها ..
وقبل أن أتحدث عن الإسلام وعلاقته بالسيف كآلة حديدية أزهقت أرواح الملايين من البشر في دار البابا وعلى يد أهله قبل مجيء الإسلام بآلاف السنين ، أُذكِّر البابا الذي نفى عن الإسلام علاقته بالعقل بالكلام الذي قاله الملا أحمد لسفيره في دريكا حمو: ( أطفئ سراج عقلك واحمل صليبك واتبعني ) ، وأدعوه أن يقارنه مع الآية الكريمة : {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}الإسراء /36
ليعلم أي الفريقين أعقل وأكثر احتراماً للعقل ؟!
أعود للسيف ..

لكني سوف أكمل ..

وللحديث بقية لو كان للعمر بقية …

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…

خليل مصطفى مِنْ أقوال الشيخ الدكتور أحمد عبده عوض (أُستاذ جامعي وداعية إسلامي): ( الطَّلَبُ يحتاجُ إلى طَالِب ، والطَّالِبُ يحتاجُ إلى إرادة قادرة على تحقيق حاجات كثيرة ). مقدمة: 1 ــ لا يختلف عاقلان على أن شعوب الأُمَّة السُّورية قد لاقت من حكام دولتهم (طيلة 70 عاماً الماضية) من مرارات الظلم والجور والتَّعسف والحرمان، ما لم تتلقاه شعوب أية…

أحمد خليف الشباب السوري اليوم يحمل على عاتقه مسؤولية بناء المستقبل، بعد أن أصبح الوطن على أعتاب مرحلة جديدة من التغيير والإصلاح. جيل الثورة، الذي واجه تحديات الحرب وتحمل أعباءها، ليس مجرد شاهد على الأحداث، بل هو شريك أساسي في صنع هذا المستقبل، سواء في السياسة أو في الاقتصاد. الحكومة الجديدة، التي تسعى جاهدة لفتح أبواب التغيير وإعادة بناء الوطن…