بقلم: حسين عيسو
يعتبر الإحصاء الاستثنائي الخاص بمحافظة الحسكة “عام 1962 ” نقطة سوداء في تاريخ سوريا وقيمها الثقافية والحضارية كجريمة عنصرية ارتكبت بحق شريحة كبيرة من المجتمع السوري , لذا فهي تعتبر مأساة وطنية سورية بامتياز اذ نفذت هذه الجريمة بحق أكثر من مئة وعشرين ألفا من البشر آنذاك , وذلك بتجريدهم من هويتهم لا لسبب سوى أنهم ينتمون لعرق مختلف ضمن المجتمع السوري , أي لأسباب عنصرية فقط , فتجريد الإنسان من جنسيته وهويته هو حرمانه من حقوقه الإنسانية كافة بما فيها حق العمل والتملك والتعليم وحتى التنقل بحرية داخل الوطن وهو بمثابة حكم إعدام بحقه , والسؤال هنا كيف حصلت هذه الجريمة وكيف نفذت وماذا كان رد الفعل الكردي والسوري عليها آنذاك وكيف ينظر إليها اليوم ؟.
تمهيد
العلاقات العربية الكردية : يذكر المؤرخون أن الشعب الكردي ومنذ الفتح الإسلامي لمناطق الجزيرة والموصل في العام السابع عشر للهجرة بقيادة عياض بن غنم أيام خلافة عمر بن الخطاب ودخول الكرد في الإسلام أنهم كانوا دوما جنودا في الخط الأول للدفاع عنه والتاريخ الذي يذكر الخلافات العميقة والعداء بين العرب من جهة وبين كل من الفرس والترك من جهة أخرى لم يشهد على أي خلاف من ذلك مع الكرد لا بل أنهم كانوا باستمرار في الصف الواحد وحتى حين احتل الصليبيون القدس وتقاعس الخليفة العباسي المسيطر عليه من قبل الأتراك في بغداد واستمرار استنجاد أهل القدس بالخليفة تم إرسال الأيوبيين الكرد لدعمهم وتم تحريرها على يد القائد الكردي صلاح الدين ثم كانوا شركاء في المعاناة تحت نير الحكم التركي الجائر لقرون وقاوموا الاستعمار الفرنسي معا حيث تعتبر معركة بياندور القريبة من القامشلي عام 1923 في الجزيرة والتي اشترك فيها الى جانب الكرد العديد من أبناء قبيلة الجوالة العربية من أولى المعارك السورية ضد المحتل الفرنسي ثم انتفاضة عامودا ضد المحتل عام 1937 والتي تعرضت والقرى المحيطة بها لقصف الطائرات الفرنسية تشهد على نضالات الكرد السوريين ضد المحتل الفرنسي.
والسؤال هنا لماذا نفذت هذه الجريمة بحقهم برغم كل ما ذكر ؟.
عن فترة الانفصال يقول الأستاذ عبد الحميد درويش في كتاب له بعنوان “أضواء على الحركة الكردية في سوريا”: “….اتخذ قادة الانفصال من الأكراد والقضية الكردية مادة لإثارة المشاعر العربية والهاء الجماهير العربية عما فعلوه بالخطر الكردي المزعوم فاخترعوا قصة التسلل الكردي المزعوم من تركيا والعراق الى منطقة الجزيرة…..”ويكمل “في تقديري فإنهم كانوا بموقفهم الشوفيني هذا يحاولون التغطية على انقلابهم ضد الوحدة التي كانت قائمة بين سوريا ومصر….” !.
وهكذا فان هذا العمل إضافة إلى انه كان للمزايدة على الوحدويين العرب , بإيهامهم بوجود عدو آخر داخلي هم الكرد فانه كان أيضا للتغطية على مؤامرة أخرى , وهو اتفاق سري بين حكومة الانفصال وبين كل من إسرائيل وتركيا على تهجير اليهود السوريين الى إسرائيل عبر تركيا , فقد فتحت الحدود بين سوريا وتركيا في منطقة القامشلي خلال أيام عيد الأضحى عام 1962 للتزاور بين الناس على طرفي الحدود , ولأول مرة منذ ان تم رسم الحدود بين سورية الحالية وتركيا حسب اتفاقية “سايكس بيكو” , حيث تم اعتبار سكة حديد بغداد برلين كخط حدود بينهما في منطقة الجزيرة والتي قسمت العديد من القرى والبلدات الى تركية وسورية حسب مكانها شمال أو جنوب خط السكة وفرقت العديد من العائلات , مدعين بأنهم فتحوا الحدود للتزاور بين الأهل لأسباب إنسانية , ولما تبين بعدها بأيام بأن السبب لم يكن لأغراض إنسانية كما قالوا , وإنما كانت مؤامرة تم الاتفاق عليها لترحيل اليهود السوريين الى إسرائيل عبر تركيا , فكان لابد لتغطية تلك الجريمة من تقديم ضحية , وهي كالعادة “الكرد” فكان نشر دعاية التسلل الكردي من تركيا الى سوريا وخوفا على عروبتها ” !!!!.
“كم هما مظلومان هذان الشعبان الفلسطيني والكردي فيرحل اليهود ليحلوا مكان الفلسطينيين ويطردوهم من أرض آبائهم ويتهم الكرد بأنهم لاجئون في أرض أجدادهم”!!!!!, حين انكشفت خيوط المؤامرة وتبين للكرد أنهم ضحايا مؤامرة أخرى , وكانت أغلب قيادات الحزب الكردي الوحيد آنذاك معتقلين فلم يكن لديهم أية إمكانية سوى إرسال مذكرة احتجاج من السجن الى قائد موقع القامشلي “اللواء فرحان جرمقاني” تحمله مسئولية ما تخططه حكومة الانفصال , وأن ما يجري على الحدود يقع تحت مسئوليته وعليه أن يعلن حقيقة ذلك أو تكذيبها , وبما أن الرجل كان يحترم مهنته ولم يتقبل فكرة التواطؤ على ظلم شعب مقهور أصلا , من أجل تمرير مؤامرة دنيئة , فقد حدث خلاف بينه وبين سعيد السيد محافظ الحسكة آنذاك , انتهت باستدعائهما الى دمشق دون اتخاذ أي إجراء , وهكذا نفذت الجريمة بحق شعب أعزل ولأسباب عنصرية ولضرب الوحدة الوطنية السورية بخلق نعرات عنصرية بين الشعبين الشقيقين لأول مرة في التاريخ , ثم وبعد انقلاب 8 آذار الذي أتى بالبعثيين , استساغ الشوفينيون منهم فكرة تجريد الكرد من الجنسية السورية , فأبقوا على ما أقرته حكومة الانفصال رغم أنهم اعتبروها غير شرعية , أي أن قراراتها باطلة “وما بني على باطل فهو باطل” , الا أنهم فيما يخص قرار الإحصاء ضربوا بتلك النظرية عرض الحائط , لا بل يبدو انهم غفروا للانفصاليين مؤامرتهم على فلسطين “قضية العرب المركزية” , مقابل تجريد الكرد من جنسيتهم واعتبارهم لاجئين فوق أرضهم , ففكرهم الأيديولوجي ولا أقصد هنا كل القوميين العرب وإنما الشوفينيين منهم والذين تشبعوا بفكر ميشيل عفلق وساطع الحصري “فختة العرب” كما كانت تسمى تلك الشخصية الجدلية المشكوك في أصلها “الذي يرجعه كثيرون الى اليهود الدونمة” والذي كان في الأساس من منتسبي الاتحاد والترقي , ومن أشد المنظرين للقومية الطورانية التركية العنصرية , الا انه وبعد هزيمة الاتحاديين الأتراك في الحرب العالمية الأولى ونجاح الثورة العربية وتتويج فيصل ملكا على سوريا , ترك الآستانة ليلتحق بفيصل هناك ومنها معه الى العراق ليتحول من مفكر ومنظر قومي تركي حاقد على كل القوميات الأخرى بما فيها العرب , الى قومي عربي ومنظر للفكر الشوفيني والاستعلاء العنصري المنسوخ عن فكر الاتحاد والترقي التركي , ولينشر التفرقة العنصرية في العراق ضد الشيعة والكرد هناك , الى أن تم طرده الى لبنان فسوريا لينشر نفس الأفكار فيها ويخرج أعدادا من المريدين وبما أنه كان في الأساس من الطورانيين الاتحاديين الأتراك فان الشوفينيين الذين تشبعوا بفكره ساروا على خطى الاتحاديين في محاولة إلغاء الآخر أو تهجيره , فقاموا بتنفيذ بنود هذا الإحصاء في العام 1965 وبشكل عبثي مقصود اذ تم تجريد أغلب العائلات الكردية المعروفة بوطنيتها أيام الحكم الفرنسي والمثقفين ومنهم من كانوا ضباطا كبار في الجيش السوري وأعضاء برلمان وبعضهم بقي الأب مواطنا بينما الأبناء أجانب وهكذا نفذت أبشع جريمة بحق الإنسان في سوريا الحالية تحت سمع وبصر المثقفين السوريين والعالم حينذاك , وما زال الضحايا يعانون من نتائج تلك الجريمة , أما رد الفعل الكردي السوري آنذاك , فكان كمن يصرخ في غرفة مغلقة والسبب في ذلك كان ضعف الكادر الكردي المثقف ومعاناة أغلبهم في المعتقلات أو كانوا ملاحقين لذا لم يتعدى رد فعلهم عن بيانات الاحتجاج كما ذكرت فقد كان الفكر العنصري الشوفيني في أوجه وتزوير التاريخ والتعامل اللاإنساني مع الآخر , كان من المفاخر التي يتباهى بها الشوفينيون من تلامذة عفلق دون خجل , فشخص مثل السيد محمد طلب هلال والذي كان رئيسا للأمن السياسي في محافظة الحسكة فترة الانفصال , لا يخجل في كتيب له بعنوان “دراسة عن محافظة الجزيرة” حين يتباهى فيه بأسلوبه في التحقيق مع الشيوخ والمسنين الكرد فيقول حرفيا: (…..
صرح نفر منهم لدى “التحاقيق” والاستجوابات حتى أن أحدهم أطلعني على كل أسرار ابنه البارتي بغية الحفاظ على كرامته…..
فانك لا تعدم وجود مثل “ذلك” الأشخاص على قلتهم ولن تصل الا عندما تهدد كرامة الشيخ بل بصعوبة بالغة حتى تصل الى شيء ما ) !.
“نقلت هنا بالحرف نفس الأسلوب الركيك واللاانساني الذي يفتخر به هذا الإنسان” عن شيخ جليل لم يحترم سنه وشيخوخته فهدد كرامته والله يعلم ما نوع تلك الكرامة التي هدده بها , حتى أجبره على البوح بسر إبنه الذي كان بارتيا أي حزبيا , هذا الشخص الذي أقل ما يوصف به هو انه سادي همجي , أصبح بعد انقلاب البعث عضوا في القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي ووزيرا في حكومة يوسف زعين ثم سفيرا لسورية في بولونيا إضافة الى ذلك فقد نفذت نصائحه ومقترحاته للسلطة بكافة بنودها آنذاك وهي وكما ورد في كتيبه كالتالي : ” محاولة تهجير الكرد – العمل بسياسة التجهيل وذلك بعدم إنشاء المدارس في مناطق الكرد – محاولة ترحيلهم الى تركيا بنزع الجنسية السورية عنهم – سد باب العمل أمامهم لإجبارهم على الرحيل ومنعهم من الاستفادة من الإصلاح الزراعي – تهيئة وتحريض العناصر العربية عليهم – نزع الصفة الدينية عن المشايخ الكرد وإرسال مشايخ عرب أقحاح مكانهم – ضرب الأكراد في بعضهم – إسكان عناصر عربية قومية في المناطق الكردية على الحدود ريثما يتم تهجيرهم – جعل الشريط الشمالي للجزيرة منطقة عسكرية مهمتها إسكان العرب وإجلاء الأكراد – إنشاء مزارع جماعية للعرب الذين تسكنهم الدولة في الشريط الشمالي على أن تكون هذه العناصر مدربة ومسلحة عسكريا “كالمستعمرات اليهودية على الحدود تماما “.
هذه النصائح والمقترحات منقولة من كتابه المذكور باختصار وبالحرف ومنها جملته الأخيرة “بإنشاء مستعمرات على الطريقة اليهودية في فلسطين”.
وقد نفذ قرار هذا الإحصاء في عهد الحكومة البعثية عام 1965 وبتنفيذه تم تجريد ما يقارب المئة وعشرين ألفا من الكرد من جنسيتهم وأملاكهم وتلاها تنفيذ الخطة الثانية ألا وهي إنشاء ما سمي بالحزام العربي والذي أدى الى حرمان باقي الفلاحين الكرد من أراضيهم الزراعية على طول الحدود مع تركيا وبعمق عشرة كيلومترات في محافظة الجزيرة ومنحها لفلاحين عرب جلبوا قسرا من محافظتي الرقة وحلب وتم إسكانهم في قرى بنتها السلطة لهم , ثم كانت الخطة الثالثة بتعريب أسماء مئات القرى والبلدات الكردية في انتهاك واضح ليس لحقوق الإنسان الكردي فحسب بل وللتاريخ والجغرافيا أيضا .
أما رد فعل الأحزاب والمثقفين السوريين فقد كان وللأسف الصمت المطبق حيال هذه الجريمة في تلك الفترة فلم نسمع يومها “عكس ما يجري عادة في بلدان العالم الأخرى” أن أحدا ندد بهذه الجريمة البشعة أو حاول إجراء مسح على الطبيعة لمعرفة حجم وتداعيات هذه المأساة الإنسانية , ومدى الأضرار التي لحقت بشريحة كبيرة من أبناء الشعب السوري في هذه المنطقة!, لا بل حاول الشوفينيون المؤدلجون منهم , تبرير هذا التصرف بتزوير التاريخ ومحاولة كتابة تاريخ جديد للمنطقة يعتبر الأكراد مجرد لاجئين في أرضهم , الى أن ظهرت في الآونة الأخيرة شخصيات وطنية تستنكر ما حصل من انتهاك بحق الكرد السوريين , يقول عالم الاجتماع السوري المعروف د.
برهان غليون : “لا شك ان ما شجع على ذلك هو انسداد أفق التحولات التي ارتبطت بحركة القومية العربية نفسها وإخفاق عملية التوحيد والعجز عن مواجهة إسرائيل , فقد بدا أن إخضاع الأكراد وتجريدهم ما أمكن من هويتهم هو أحد الانجازات التي يمكن للسلطات الفاشلة أن تبيعها لرأيها العام باسم القومية أو كبضاعة قومية لكن ذلك لا يعني أن لا مسؤولية على المثقفين والمفكرين والقادة السياسيين في ذلك………”.
ويقول الناشط السوري أكرم البني: من البديهي أن نسلّم بوجود شعب كردي في سورية، يشكل القومية الثانية بعد العرب، لكن ما يطعن هذه الحقيقة ويتركها أسيرة الالتباس، محاولات الإلغاء التي دأبت عليها قوى التطرف والتعصب القومي، إن خارج السلطة أو داخلها.
إن القراءة الشوفينية لتاريخ المجتمع السوري هي قراءة خطيرة تؤسس لشروخ عميقة في النسيج الاجتماعي، وتفضي إلى إشكالات بفعل تبلور وجهات نظر متباينة وحتى متناقضة، حول أحقية أو مشروعية القوى القومية المتعددة التي تشكل بنية هذا المجتمع, من دون أن نلمس ماهية الضرر الناجم عن اعتراف الجميع بالحقائق الراهنة والاحتكام إلى وقائع عمرها مئات السنين تؤكد أن لحمة هذا المجتمع هي خليط من قوميات مختلفة”.
واليوم أرى أن هذه القضية تستحق أن تتحول الى قضية وطنية بامتياز وتتحمل مسئولية تصحيحها وتحقيق العدالة جميع الأحزاب والقوى الوطنية والديمقراطية السورية وليس الكرد السوريين وحدهم لأنها تشكل وصمة عار بحق الحضارة السورية التي تمتد لأكثر من خمسة آلاف عام وبعد أن انتقلنا الى القرن الحادي والعشرين أو الألفية الثالثة كما يقال .
المراجع التي تم اعتمادها بخصوص الإحصاء الاستثنائي لعام 1962:
1- دراسة عن محافظة الحسكة الملازم أول محمد طلب هلال
2- أضواء على الحركة الكردية في سوريا الأستاذ عبد الحميد درويش
3- الإحصاء الاستثنائي في محافظة الحسكة م.أوسي
4- تعريب أسماء القرى والبلدات الكردية التحالف الديمقراطي الكردي
5- وهناك العديد ممن مازالوا يحتفظون بهوياتهم واثبات تنفيذ الخدمة الإلزامية في الجيش السوري قبل سحب جنسيتهم السورية .
حسين عيسو
الحسكة – سوريا