لكن حين تتقرّبُ منهم وإليهم أكثر, أو تخترق سربهم ,وتسترقُ السّمع والشّعور واللاشعور للمداولات والمناقشات والمهاترات التي تدور في قوقعةِ فكرهم وإدراكهم ونطقهم ولسانهم ستجدُ العجائب وتتلقى ما هو أكثر دهشة واستغراباً بدءاً من تنامي روح النفاق فالنميمة والغيبة والغيرة المأسوف عليها واختلاق التهم المهينة لذاتِ الشّخص وشكله ومضمونه, بل يتعدّى إلى المساس بعائلته بكلّ فروعها وأصولها وعشيرته وحارته وحتى البيئة التي عاش فيها وترعرع, ولا ينسى أن يكسيَ قلمه إن كان كاتباًً بالضّعف والعجز الغريزي والخيالي والواقعي ,وتسلل هذا القلم الغدّار المخادع إلى عرش فكره وصميمه واختلاس ما طاب له من بنات وأبناء وأحفاد أفكاره وعبقرياته.
نعم بهذه العبارات أردتُ أن أستفتحَ هذه الحلقة لأنّها تشكل عصارة أفكار بعض من إخوتي وأخواتي الذين ألحوا عليّ تدوينها في صفحاتِ هذه الحلقة بأمانة, ولا أخفيكم مدى الدّهشة وقوّة الصّرعة التي انتابتني وأنا أتصفحُ هذه الأفكار, واليأس الذي خيّمَ بحباله على نفوسنا نتيجة ما آلتْ إليه كتابتنا الأدبية والثقافية والفكرية وما وصلتْ إليه أخلاقُ وتصرّفات بعض كتابنا ومثقفينا الذين نعتزّ بهم.
قال أحدهم: هناك نوعٌ ممَنْ يكتب وبمجرّد أن تُنشر له بعض المواد أو يصدر كتاباً أو كتابين, ويتحدّثُ عنه بعضُ مهتمّي الكتابة حتى يتخيّل أنّه قد اعتلى أجنحة الشّهرة والمجد من أعلى قممها ,ويظنّ أنّ كوكب الأرض بمَنْ فيه وعليه لم يعد يسعه ويسع إبداعاته ويختلقُ لنفسه كوكباً آخر , فيطير عالياً…عالياً وحين يلمحُ طيف سماء بلدته وأرضها بناسهم وساكنيهم يعود إلى الوراء بسرعة خاطفة لأنّه يظنّ أنّ هؤلاء لم يعودوا يستأهلونه ويشرّفون مقامه الرّقيق جدّاً, أما النوع الآخر من هذه الفئة فهو الذي يرى في توددِ أهله ومعارفه وأصدقائه إليه نوعاً من مسح الجوخ, ورغبة في التسلق إلى عرش الشّهرة على أكتافه وقد ذكرني هذا القول بما حدث مع إحداهنّ وهي كاتبة لها حضورها في عالم الأدب والكتابة سُرّتْ المسكينة كثيراً لسماعها أخباراً سارة عن وصول امرأةٍ ممَنْ تعرفهنّ إلى درجةٍ لابأس بها من الشّهرة فأرادت التواصل معها ومراسلتها وفي إحدى المرّات خطر لها أن تكتبَ بعض الأسئلة وتطرحها عليها لتنشرها في بعض المواقع والمجلات فجاءها الرّد سريعاً بأنّهالاتحبّذ مثل هذه اللقاءات وقد رفضت طلبات كلّ مَنْ رغب في إجراء حوار معها فتقبّلتها بكلّ هدوء واحترمتْ رغبتها, ولكنّ الصّدمة القاضية تلقتها حين قصّتْ ما جرى بينها وبين تلك المرأة على بعض معارفها الذين أبدوااستهجانهم وفتحوا لها جهاز الكومبيوتر وصفحة الانترنيت, ثمّ أسرعوا إلى صفح /google / وسجلوا اسم تلك الكاتبة فيها لترى وتقرأ بنفسها كلّ ما كُتِبَ عنها والأهمّ من ذلك الحوارات واللقاءات التي أجريت معها ونُشرتْ في المواقع والجرائد فلم تتمالك نفسها وقالت بدهشة: ولكن لماذا تكذبُ عليّ وتؤكد أنّها لاتحبّذ ذلك فجاءها الرّدسريعاً: يبدو أنّكِ بالغتِ في جرعةِ ثقتكِ بهذه الكاتبة العظيمة وإعجابكِ بها حتى ظنّتْ وللأسف الشّديد أنّكِ تريدين أن تقتحمي مثلها ملكوت العظمة والشّهرة ولكن على أكتاف وأرجل شهرتها وعظمتها.أحدهم قال: ليتنا نتفهّمُ جيّداً أنّ المثقفّ الحقيقي هو مَنْ يجدُ نفسه فرداً من المجتمع الذي يعيشُ فيه بكلّ إيجابياته وسلبياته,بكلّ محاسنه ومساوئه, وتناقضاته وتبايناته,ومن ثمّ يساهمُ مساهمة فعّالة وحقيقية في تثبيت دعائم الإيجابيات ومحاولة تهدئة السّلبيات لتنضم إلى عالم الإيجابيات, والسّيئاتِ إلى الحسنات, والمتناقضات إلى المتوافقات, والأمرالآخر الذي يجب أن يتحلى به كل فردٍ منتم إلى هذه الطبقة أن يكون مقتنعاً كلّ القناعة بما يكتب, ويحوّل نفسه إلىقارئ مواظبٍ لكتاباته ليستفيد ممّا يكتب وممّا يريد أن يتحلى به الآخرون, فمثلاً هناك مَنْ يدّعي مناصرته للمرأة وقضيّتها, ويتطوّعُ بفكره وقلمه للدّفاع عنها وهو أسوأ مَنْ يتعاملُ مع أمّه أو أخته أو زوجته أو من في عهدته وحماه من النساء وأمثلة غيرها كثيرة لا تعدّ ولا تُحصى.
ما أودّ أن أضيفه أنّ الأدب هو فنّ الممارسة الحقيقية والصّادقة مع الذاتِ أوّلاً ومع الآخرين, والثقافة تهذيبٌ واستقامة وسلوكٌ عقلاني وأدبي ولا أحد منا يستطيعُ أن يهربَ من مسكنه الذي ولد فيه ومن أهله وواقعه, بل يظلّ مرتبطاً بهم ارتباط الرّوح بالجسد, والكاتب الحقّ والمثقفُ الحقيقي هو مَنْ يعتلي خطواتٍ إلى التواضع والطيبة كلما امتطى خطوةمن خطوات الشّهرة والنجاح , ووجود بعض مدعي الثقافة والأدب لا ينفي تمتع عددٍ كبير من مثقفينا وكتّابنا بأخلاق الكتابة الصّادقة والثقافة الأصيلة من حيثُ التواضع والطيبة والإنسانية الحقة.