أحكامٌ ظالمةٌ تطال كوكبة من الأدباءَ الكــرد في سوريا عشية (اليوم العالمي للغة الأم)

سردار بدرخـان

    إن اللغة، هذه المَلَكة التي يتميز بها الإنسان عن سائر المخلوقات في هذه الخليقة، هي نتاج معايشة الإنسان مع الطبيعة وثمرة صراعه وتجاربه المريرة مع قواها عبر عشرات آلاف السنين حتى أخذت أشكالَها الراهنة من التطور، فما أن ينطقَ اليومَ إنسانٌ بلغة معينة، حتى يدركها ويفهمها أقرانُه في كافة أرجاء المعمورة وينفعلون معه.

باللغة، تستطيع شعوب الأرض التعارفَ والتواصل المعرفي والثقافي، ومدّ جسور الصداقة والثقة والاحترام بينها، والاطلاع المتبادل على مختلف العلوم والآداب والثقافات وإغناء الحياة الروحية للبشرية.
 فاللغات والثقافات والحضارات والفولكلور الشعبي العائدة لمختلف شعوب المعمورة، باتت اليوم ملكاً للبشرية جمعاء، لأنها مجتمعة تشكل الثقافة العالمية الزاخرة بالتنوع والألوان، ولا يجوز التفريط بكلمة واحدة من لغة شعب أو حكمةٍ من حِكَمه أو أغنية من أغانيه التي تحمل في ثناياها عبق الماضي السحيق وتجربة الإنسان مع قوى الطبيعة الحية.

   تعيش اليومَ على كوكبنا ما يقارب الـ 7000 لغة محكية ولكن بأعداد ونسبٍ متفاوتة، يتكهن العلماء بزوال نصفها على مدى عدة أجيال قادمة بسبب طغيان العولمة والتهامِ لغاتٍ لأخرى، تلك التي يعتبرها العلماء خطراً كبيراً يهدد التراث والثقافة الإنسانية وتستوجب تجميع الطاقات لحماية هذه اللغات من الفناء وتوفير سبل البقاء والتطور الطبيعي لها، ومن هذا المنطلق، أقدمتْ منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة(اليونسكو) في مؤتمرها العام المنعقد بتاريخ 17/11/1999م على إدراج يوم عالمي للغة الأم في 21شباط من كل عام على المستوى العالمي يعتبر عيداً للغات الأم في الدنيا بأسرها، واعتمد هذا القرار بدءاً من شباط عام 2000م ولا يزال حتى يومنا هذا، ضماناً لحماية اللغات واحترام خصائص الشعوب والأقوام المختلفة.
   في عصرنا هذا الذي يشهد تغيراتٍ متسارعة على كافة الصعد وفي مختلف أوجه الحياة، نحن جميعاً بحاجة إلى ثقافة إنسانية جديدة مبنية على أسسٍ صحيحة، ركيزتها احترام التنوع اللغوي والثقافي والحضاري والسياسي، والإيمان بأنَّ اللون الواحد والثقافة الواحدة والرأي الواحد الذي لا يقبل الآخر، لا تنسجم مجتمعةً مع هذا العصر وليس لها مستقبلٌ في المدى المنظور، لأنها هي في جوهرها ثقافة تعسفية عنفية تلغي التنوع وتعمم اللون الواحد بالإكراه.

من جهة أخرى، هناك قولٌ مأثور مفادُه: “تعاملْ مع الناس كما تريد أن يتعاملَ الناس معك”، بماذا تشعر في أعماقك حينما يحاول متجبرٌ أقوى منك أن يلغيك ويشطبك من الوجود ويمنع عنك لغتك وثقافتك وتراث آبائك وأجدادك الأقدمين، ويمارس بحقك سياسات ظالمة متكئاً في ذلك على قوته وجبروته؟! أوليسَ هذا شبيهاً بسَرَيان شريعة الغاب التي ينأى البشر عن ممارستها؟!! كم يكون جميلاً ومنسجماً مع الأخلاق والقيم الإنسانية النبيلة حينما تشعر بشعور أخيك الإنسان، تفرح لفرحه وتحزن لحزنه وتقدم له يدَ العون عند الحاجة، أوَ ليست هذه هي القيم الإنسانية التي تفتقر إليها شعوبنا في منطقة الشرق؟!..
   عشية هذا العيد الإنساني الجميل، وقبل أربعة أيام فقط من قدومه، أصدرَ السيد القاضي الفرد العسكري بالقامشلي يوم الخميس17/02/2011م حكماً بالسجن مدة 4 أشهر بحق ثلاثة أدباء كرد هم السادة: عبدالصمد حسين محمود(شاعر)، عمر عبدي إسماعيل(شاعر)، أحمد فتاح إسماعيل صاحب منزل، بسبب محاولتهم عقد أمسية أدبية ثقافية تخص اللغة الكردية والشعر الكردي!!، ترى، أهكذا يكافأ الشعراء في عيدهم بوطننا!!
   إنّ ممارسة العنف بحق اللغة والثقافة الكردية، لا يتعارض مع كافة المواثيق والعهود الدولية وحقوق الإنسان فحسب، بل يتعارض مع العهود التي وقعت عليها سوريا وتعهدت باحترامها.

وإن    اضطهادَ الثقافة الكردية وممارسة سياسات القمع والمنع بحق اللغة الكردية، تعيق سبلَ تطورها الطبيعي وتتسبب في ضياع الكثير من مفرداتها وحكمِها وشعرها، تؤدي إلى إفقارها وهزالها، فتلحق بذلك ضرراً بالغاً بأجواء التآلف والمحبة المفترضة بين الثقافات، وتشجع حالات القطيعة والانعزال الضارة التي تخلق الكثير من الأمراض والتشوهات في المجتمع.
   إن اللغة والثقافة الكردية هي جزءٌ من الثقافة الوطنية السورية ورافدٌ لها، وتحتاج إلى المزيد من الرعاية والمساعدة من جانب الدولة.

فبهذه اللغة الجميلة كُتبت العديد من الروائع الأدبية الخالدة التي أخذت مواقعها في صفوف الأدب العالمي، وينبغي تجاوز ضيق الأفق القومي وإحلال الثقافة الإنسانية مكانها، وبكل الأحوال، فسوف تبقى اللغة العربية الجميلة والثقافة العربية الحديثة دون تزلفٍ أو مواربة موضعَ تقديرنا واحترامنا، عندها، سوف يكون الوطن سعيداً وشامخاً بلغة وثقافة وتراث أبنائه من عربية وكردية وسريانية وآثورية وأرمنية…ويشعرون بحق وحقيقة أن هذا الوطن هو وطنهم جميعاً، لا يشعرون فيه بالغبن والشطب والتهميش.
   كلنا أملٌ، بأن يكون اليوم الدولي للغة الأم عيداً سعيداً على كافة لغات العالم، وأن تزدهر وتتقدم الأقلام والثقافات نحو الرقي والازدهار وبما يخدم مصالح البشرية جمعاء، وألا يكافاَ الأدباء والمثقفون بالسجن في عيدهم، بل تقدم لهم أكاليل الورد والمحبة.


وفي الختام، أثبتُ أدناه مقتطفاتٍ من كلمة السيد كويشيرو ماتسورا/المدير العام لليونسكو التي ألقيت عام 2008:

اللغات، هي المقومات الجوهرية لهوية الأفراد والجماعات وعنصر أساسي في تعايشهم السلمي، كما أنها عاملٌ استراتيجي  للتقدم نحو التنمية المستدامة وللربط السلس بين القضايا العالمية والقضايا المحلية… تعدد اللغات عن بصيرة، هو الوسيلة الوحيدة التي تضمن لجميع اللغات إيجاد متسعٍ لها في عالمنا الذي تسوده العولمة.

لذلك، تدعو اليونسكو الحكومات وهيئات الأمم المتحدة ومنظمات المجتمع المدني والمؤسسات التعليمية والجمعيات المهنية الأخرى إلى مضاعفة أنشطتها الرامية إلى ضمان احترام وتعزيز وحماية جميع اللغات، ولاسيما اللغات المهددة، وذلك في جميع مجالات الحياة الفردية والجماعية
“.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

شيروان شاهين تحوّل الصراع في سوريا، الذي بدأ منذ 14 سنة كحركة احتجاجات شعبية، من حالة صراع بين ميليشيات مسلحة وسلطة منهكة على مستوى أطراف المدن والأرياف إلى صراع طال شكل الدولة ككل. حيث أفرزت الحرب الأهلية واقعًا وعنوانًا جديدًا في 8 ديسمبر 2024: انهيار دولة البعث وإعلان دولة القاعدة. تميّز حكم البعث، الذي بدأه أمين الحافظ “السني”…

اكرم حسين   طرح الأستاذ عاكف حسن في مقاله هل ما زلنا بحاجة إلى الأحزاب السياسية؟ إشكالية عميقة حول جدوى الأحزاب السياسية اليوم، متسائلاً عمّا إذا كانت لا تزال ضرورة أم أنها تحولت إلى عبء ، ولا شك أن هذا التساؤل يعكس قلقاً مشروعًا حيال واقع حزبي مأزوم، خاصة في سياقنا الكردي السوري، حيث تتكاثر الأحزاب دون أن تنعكس…

صلاح عمر   ثمة وجوه تراها حولك لا تشبه نفسها، تبتسم بقدر ما تقترب من الضوء، وتتجهم حين تبتعد عنه. وجوهٌ لا تعرف لها ملامح ثابتة، تتشكل وفقًا لدرجة النفوذ الذي تقترب منه، وتتلون بلون الكرسي الذي تطمح أن تجلس بقربه. هؤلاء هم “المتسلقون”… لا يزرعون وردًا في القلوب، بل ينثرون شوك الطمع على دروب المصالح. لا تعرفهم في البدايات،…

أزاد فتحي خليل*   لم تكن الثورة السورية مجرّد احتجاج شعبي ضد استبداد عمره عقود، بل كانت انفجاراً سياسياً واجتماعياً لأمة ظلت مقموعة تحت قبضة حكم الفرد الواحد منذ ولادة الدولة الحديثة. فمنذ تأسيس الجمهورية السورية بعد الاستقلال عام 1946، سُلب القرار من يد الشعب وتحوّلت الدولة إلى حلبة صراع بين الانقلابات والنخب العسكرية، قبل أن يستقر الحكم بيد…