حاول رشيد حمو إصلاح ما أمكن , فأنشأ مدرسة لتعليم الأطفال في قريته لغتهم الكردية , ثم انتسب الى الحزب الشيوعي السوري – حزب الكادحين والشعوب المضطهدة – كما كانت الدعاية عنه , عله يستطيع خدمة شعبه , من خلال النضال ضمن ذلك الحزب , لكنه حين فهم اللعبة , وأن حقوق الشعوب في الحرية والكرامة , هي من أقوال ذاك الحزب , وليست ضمن أفعاله , تركه ليحاول تأسيس أول حزب كردي سوري مع مجموعة من رفاقه منذ العام 1953 بعد أن ترك الحزب الشيوعي , ليأتي الحزب الوليد الى النور عام 1957 , وحين رأى أن هنالك أياد لعبت مرة أخرى في توجيه ذلك الحزب , ما أدى الى فشله في أول امتحان له العام 1960 ,وكانت نتائج ذلك وبالا على الشعب المغلوب – الإحصاء الاستثنائي والحزام العربي … – ثم التراجع عن القرارات بعد فوات الأوان , وما تلاه انقسام فانقسامات توالدت أحزابا , ولما لم يجد رشيد أملا في الإصلاح , قرر أن يعتزل ويعود الى هوبكا القرية الوادعة على سفوح جبال كرداغ , منطقة عفرين , ليكمل ما تبقى له من العمر بجانب قبر رفيقة عمره المدفونة أمام المنزل الصغير المقام فوق تلة بعيدة عن القرية , وليحظى بالوحدة مع الرفيقة , يتذكر من خلالها أيام العذاب في المعتقلات والمنافي التي أخذت الكثير من عمره , وما عانته هي من عذابات الغياب والخوف من زوار الليل , إضافة الى ضربات رفاق الأمس وأعداء اليوم , ثم ليرحل أخيرا عن دنيانا وهو في منتصف الطريق , بين عفرين والجزيرة , ليكون رحيله ومن هذا المكان عبرة , تًُذكّر قادة اليوم بما عاناه متنقلا بين المنطقتين , تارة لإصلاح ذات البين , وتارة متخفيا فرارا من بطش سلطات الاستبداد , وكيف أن كل تلك المعاناة ضاعت بفضل عبثيتهم , بعد أن وصل الحال بنا اليوم الى درجة أن يبيع الإنسان الكردي بيته لمهرب مقابل خدمة واحدة فقط , هي أن يجد له ملاذا في أي مكان من العالم بعيدا عن الجوع الذي يتهدد أطفاله , هذا الإنسان الذي يتسكع اليوم على أرصفة الغربة , على امتداد الكرة الأرضية بين أستراليا وكندا , هذا إذا أوصلته سفن القراصنة والمهربين الى مبتغاه , وإلا فهو طعام لحيتان البحار والمحيطات التي أصبحت تعرف مذاق دمائنا , , هل عرفتم من قبل انسانا يبيع أرضه مقابل الحصول على أي مأوى يلوذ به !, لقد مات رشيد بين المنطقتين ليقول لنا جميعا : “أضعت ستة عقود من حياتي وأنا أحاول التقريب بينكم وتوجيهكم لخدمة هذه الفئة المنكوبة من البشر , ففشلت !” .
نعم , لقد رحل وحيدا وهو يتنقل لآخر مرة , بين الجزيرة وعفرين , وكما قال لنجله خوشناف ذات مرة : “كنت وحيدا وضعيفا وكان الظلام يحيط بي من كل الجهات” , نعم كان الظلام يحيط به , والمآرب الشخصية لاحقته حتى يوم وفاته , فتنافسوا على من يسرع في نشر النعوة , كدليل على تبنيهم له قبل الآخر , وسرعان ما ظهرت النعوة , دون أن يراعى وضعه كمناضل في سبيل حقوق الكرد وليس لفئة معينة , ودون إجراءات تليق بمقامه , فترك في ثلاجة جامع قاسمو مثل أي غريب , ودون أن تجرى له مراسم العزاء كشخصية وطنية , ولو بنصب خيمة حتى يعرف الناس من المتوفى , كما هي العادة , ثم وأخيرا تم نقل جثمانه الطاهر الى مسقط رأسه , بشكل لا يليق بمناضل مثله , وكادت أن تكون إهمالا لشخصية تاريخية , لولا انتباه قيادات أحد الأحزاب الكردية في منطقة عفرين الى ذلك , وإعلام أبناء حلب وعفرين , بأن المتوفى هو المناضل رشيد حمو , وأن ما حصل له في الجزيرة , ليست إهمالا من أبنائها الذين يقدرون نضالات قادتهم وإنما نتيجة عبثية البعض , وعدم وصول الخبر الى الكثيرين , لأن نسبة واحد في الألف له اتصالات بالانترنت , وحينها تدافع الكرد في المنطقة , ليقدموا للفقيد الكبير الواجب والاحترام اللازم لشخصية وطنية كانت تستحق أكثر من ذلك , رحم الله فقيدنا الغالي والذي ترك الجزيرة لآخر مرة .
وحيدا والظلام يحيط به من جهة الجزيرة التي لم تكن بخيلة يوما مع مناضليها .
منذ أعوام قليلة وبعد نشر العديد من الكتابات عن تاريخ الحركة الكردية في سوريا والاختلافات الواضحة في الرؤية حول بداياتها – مرحلة التأسيس وما بعدها – أي مرحلتي الخمسينات والستينات وما تلاها من انقسامات , قررتُ اللجوء الى الأستاذ “رشيد حمو” والذي علمت من الأصدقاء أنه عاد الى قريته هوبكا , معتزلا السياسة وزواريبها وأمجادها , وبعد عدة اتصالات معه ورغم ما استخدمت معه من أساليب تستفزه للحديث عن ذلك التاريخ , الذي لم يبق ممن صنعوه سوى شخصين أو ثلاثة , لكنه بقي مصرا على الرفض , لأنه قرر الاعتزال والراحة , وبعد محاولات مضنية وتدخل الصديق “أبو لورين” والذي لاحظت أن له مكانة خاصة في قلب أستاذنا الكبير “رشيد حمو” , ما اضطره للتراجع عن إصراره السابق , وأن يستقبلنا أكثر من مرة , ويحدثنا عن ذلك التاريخ بتفصيل يشهد أن السنوات التي زادت عن الثمانين عاما لم تؤثر في ذاكرته شيئا , ولذلك قلت يومها أنه يقترب من ربيعه الثالث والثمانين , ولم يكن كل ما قاله للنشر , كما اشترط , ولذا نشرت ما سمح به , على أربع حلقات *, واحتفظت بباقي حديثه الى يوم قد يحين أوانه , طبعا حين يأذن لي نجله الأستاذ خوشناف حمو .
*”لقاء مع الذاكرة” 4.3,2,1 , منشورة في العديد من المواقع
حسين عيسو
الحسكة في : 28/12/2010