وإنطفأت شمعة متوهجة بغياب المناضل الكبير رشيد حمو

حسين عيسو

تاريخ الكرد مليء بالمتناقضات , زاخر بانتصارات لم تكتمل , لتتحول الى انكسارات قاتلة , فتقذف به من جديد الى غياهب الغيبوبة , تاريخ عبرت عليه شخصيات , لو وجدت لدى شعوب أخرى لسجلت أسماؤها بين سجلات المخلدين في التاريخ , تقابلها بهلوانات همهم الوصول الى أمجاد شخصية زائلة , ولو من خلال الخوض في دماء شعبهم المغلوب , لذلك فشلت الحركات الكردية عبر القرون وانهارت بسبب تناقضاتها الداخلية .

      كان الكرد الخاسر الوحيد في احتفالات بداية القرن العشرين , وخرج من ذاك المولد مهزوما مدحورا منبوذا مقسما بين مجموعة من البلدان التي تأسست حديثا , نتيجة الخطأ في بوصلة قياداته التي لم تقرأ التاريخ , فتعاملت مع الحدث بعبثية قاتلة , لذا عاقبه التاريخ شر عقاب , ولم يترحم عليه أحد ! , كان وعي “رشيد حمو” لتلك الكارثة مبكرا , ولكنه كان يعلم بأن “عودة طائر الفينيق خرافة” , وأن إعادة ترميم الدمار الذي حل بشعبه شبه مستحيل , فالحدود الجديدة رُسمت , والقيادات التي تناحرت فيما بينها , أكثر من العمل في سبيل تحقيق مصالح شعبها , قتل منها من قتل وتشتت الباقون في بقاع الأرض , وشعبه الذي اعتبر مسئولا عن الكثير من مصائب تلك الحرب – دون أن يدري- يئن اليوم تحت ضربات الغالب والمغلوب في المنطقة بعد أن قسم الى أربعة أجزاء .

        حاول رشيد حمو إصلاح ما أمكن , فأنشأ مدرسة لتعليم الأطفال في قريته لغتهم الكردية , ثم انتسب الى الحزب الشيوعي السوري – حزب الكادحين والشعوب المضطهدة – كما كانت الدعاية عنه , عله يستطيع خدمة شعبه , من خلال النضال ضمن ذلك الحزب , لكنه حين فهم اللعبة , وأن حقوق الشعوب في الحرية والكرامة , هي من أقوال ذاك الحزب , وليست ضمن أفعاله , تركه ليحاول تأسيس أول حزب كردي سوري مع مجموعة من رفاقه منذ العام 1953 بعد أن ترك الحزب الشيوعي , ليأتي الحزب الوليد الى النور عام 1957 , وحين رأى أن هنالك أياد لعبت مرة أخرى في توجيه ذلك الحزب , ما أدى الى فشله في أول امتحان له العام 1960 ,وكانت نتائج ذلك وبالا على الشعب المغلوب – الإحصاء الاستثنائي والحزام العربي … – ثم التراجع عن القرارات بعد فوات الأوان , وما تلاه انقسام فانقسامات توالدت أحزابا , ولما لم يجد رشيد أملا في الإصلاح , قرر أن يعتزل ويعود الى هوبكا القرية الوادعة على سفوح جبال كرداغ , منطقة عفرين , ليكمل ما تبقى له من العمر بجانب قبر رفيقة عمره المدفونة أمام المنزل الصغير المقام فوق تلة بعيدة عن القرية , وليحظى بالوحدة مع الرفيقة , يتذكر من خلالها أيام العذاب في المعتقلات والمنافي التي أخذت الكثير من عمره , وما عانته هي من عذابات الغياب والخوف من زوار الليل , إضافة الى ضربات رفاق الأمس وأعداء اليوم , ثم ليرحل أخيرا عن دنيانا وهو في منتصف الطريق , بين عفرين والجزيرة , ليكون رحيله ومن هذا المكان عبرة , تًُذكّر قادة اليوم بما عاناه متنقلا بين المنطقتين , تارة لإصلاح ذات البين , وتارة متخفيا فرارا من بطش سلطات الاستبداد , وكيف أن كل تلك المعاناة ضاعت بفضل عبثيتهم , بعد أن وصل الحال بنا اليوم الى درجة أن يبيع الإنسان الكردي بيته لمهرب مقابل خدمة واحدة فقط , هي أن يجد له ملاذا في أي مكان من العالم بعيدا عن الجوع الذي يتهدد أطفاله , هذا الإنسان الذي يتسكع اليوم على أرصفة الغربة , على امتداد الكرة الأرضية بين أستراليا وكندا , هذا إذا أوصلته سفن القراصنة والمهربين الى مبتغاه , وإلا فهو طعام لحيتان البحار والمحيطات التي أصبحت تعرف مذاق دمائنا , , هل عرفتم من قبل انسانا يبيع أرضه مقابل الحصول على أي مأوى يلوذ به !, لقد مات رشيد بين المنطقتين ليقول لنا جميعا : “أضعت ستة عقود من حياتي وأنا أحاول التقريب بينكم وتوجيهكم لخدمة هذه الفئة المنكوبة من البشر , ففشلت !” .
        نعم , لقد رحل وحيدا وهو يتنقل لآخر مرة , بين الجزيرة وعفرين , وكما قال لنجله خوشناف ذات مرة : “كنت وحيدا وضعيفا وكان الظلام يحيط بي من كل الجهات” , نعم كان الظلام يحيط به , والمآرب الشخصية لاحقته حتى يوم وفاته , فتنافسوا على من يسرع في نشر النعوة , كدليل على تبنيهم له قبل الآخر , وسرعان ما ظهرت النعوة , دون أن يراعى وضعه كمناضل في سبيل حقوق الكرد وليس لفئة معينة , ودون إجراءات تليق بمقامه , فترك في ثلاجة جامع قاسمو مثل أي غريب , ودون أن تجرى له مراسم العزاء كشخصية وطنية , ولو بنصب خيمة حتى يعرف الناس من المتوفى , كما هي العادة , ثم وأخيرا تم نقل جثمانه الطاهر الى مسقط رأسه , بشكل لا يليق بمناضل مثله , وكادت أن تكون إهمالا لشخصية تاريخية , لولا انتباه قيادات أحد الأحزاب الكردية في منطقة عفرين الى ذلك , وإعلام أبناء حلب وعفرين , بأن المتوفى هو المناضل رشيد حمو , وأن ما حصل له في الجزيرة , ليست إهمالا من أبنائها الذين يقدرون نضالات قادتهم وإنما نتيجة عبثية البعض , وعدم وصول الخبر الى الكثيرين , لأن نسبة واحد في الألف له اتصالات بالانترنت , وحينها تدافع الكرد في المنطقة , ليقدموا للفقيد الكبير الواجب والاحترام اللازم لشخصية وطنية كانت تستحق أكثر من ذلك , رحم الله فقيدنا الغالي والذي ترك الجزيرة لآخر مرة .

وحيدا والظلام يحيط به من جهة الجزيرة التي لم تكن بخيلة يوما مع مناضليها .
         منذ أعوام قليلة وبعد نشر العديد من الكتابات عن تاريخ الحركة الكردية في سوريا والاختلافات الواضحة في الرؤية حول بداياتها – مرحلة التأسيس وما بعدها –  أي مرحلتي الخمسينات والستينات وما تلاها من انقسامات , قررتُ اللجوء الى الأستاذ “رشيد حمو” والذي علمت من الأصدقاء أنه عاد الى قريته هوبكا , معتزلا السياسة وزواريبها وأمجادها , وبعد عدة اتصالات معه ورغم ما استخدمت معه من أساليب تستفزه للحديث عن ذلك التاريخ , الذي لم يبق ممن صنعوه سوى شخصين أو ثلاثة , لكنه بقي مصرا على الرفض , لأنه قرر الاعتزال والراحة , وبعد محاولات مضنية وتدخل الصديق “أبو لورين” والذي لاحظت أن له مكانة خاصة في قلب أستاذنا الكبير “رشيد حمو” , ما اضطره  للتراجع عن إصراره السابق , وأن يستقبلنا أكثر من مرة , ويحدثنا عن ذلك التاريخ بتفصيل يشهد أن السنوات التي زادت عن الثمانين عاما لم تؤثر في ذاكرته شيئا , ولذلك قلت يومها أنه يقترب من ربيعه الثالث والثمانين , ولم يكن كل ما قاله للنشر , كما اشترط , ولذا نشرت ما سمح به , على أربع حلقات *, واحتفظت بباقي حديثه الى يوم قد يحين أوانه , طبعا حين يأذن لي نجله الأستاذ خوشناف حمو .


*”لقاء مع الذاكرة” 4.3,2,1 , منشورة في العديد من المواقع
حسين عيسو
الحسكة في : 28/12/2010

Hussein.isso@gmail.com   

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…

اننا في الفيدرالية السورية لحقوق الانسان والمنظمات والهيئات المدافعة عن حقوق الإنسان في سورية، وبالمشاركة مع أطفال العالم وجميع المدافعين عن حقوق الطفل وحقوق المرأة وحقوق الانسان، نحيي احتفال العالم بالذكرى السنوية الثلاثين لاتفاقية حقوق الطفل، التي تؤكد على الحقوق الأساسية للطفل في كل مكان وزمان. وقد نالت هذه الاتفاقية التصديق عليها في معظم أنحاء العالم، بعد أن أقرتها الجمعية…

نظام مير محمدي* عادةً ما تواجه الأنظمة الديكتاتورية في مراحلها الأخيرة سلسلةً من الأزمات المعقدة والمتنوعة. هذه الأزمات، الناجمة عن عقود من القمع والفساد المنهجي وسوء الإدارة الاقتصادية والعزلة الدولية، تؤدي إلى تفاقم المشكلات بدلاً من حلها. وكل قرارٍ يتخذ لحل مشكلة ما يؤدي إلى نشوء أزمات جديدة أو يزيد من حدة الأزمات القائمة. وهكذا يغرق النظام في دائرة…