صلاح برواري يشعل الحزن في قلوبنا.. هذه المرة

عمر كوجري

هكذا يقرر صديقنا وحبيبنا صلاح برواري الرحيل إلى الضفة الأخرى من نهر الحياة ..

حيث لا تفكر..

ولا تململ..

ولا جحود أصدقاء..

ولا تعب ولا أرق.

ولا ذلك المرض اللعين.

هكذا يطوي صلاح أوراقه على عجلة من أمره، ودون أن يلوّحَ لنا بيديه المرتعشتين جراء السرطان..

دون أن يشبع عينيه من بحر الجمال الذي كان سابحاً فيه حدَّ الغرق..

الجمال الذي أحاط نفسه وروحه فيه..

حيث متعة الكشف والخلق والإبداع والسهر في الليالي الطويلات والبحث في أمهات الكتب عن أخبار أمة الكرد العظيمة التي وهبها صلاح سبابه الوثابة وعصارة فكره وقلمه.

خاض صلاح مشاريع البحث عن كُنْهِ الجمال وسر ديمومته، فألف، وترجم عن العربية التي عشقها، كما لم يفته أن يبدي عظيم وجليل اهتمامه بلغته الكردية الجميلة، وكان دليلنا وحجتنا جميعاً عندما نختلف حول أصل ومعنى كلمة كردية قديمة أو حديثة، وبعد رأيه لا رأي لنا.
يرحل صلاح برواري ومازال حسُّه طازجاً في أفئدتنا ..

ذلك الحسُّ المفعمُ بالدفء الإنساني حيث يحبُّ الجميعَ، ويتواصل مع الجميع.
لقد حوّل مكتبَه الصغير في مقرِّ عمله بدمشق – ورغم مشاغله الوظيفية الكثيرة – إلى منتدى ثقافي دائم للنقاش،حيث كلما زرته رأيت جمعاً من مشارب ثقافية كردية وعربية من هنا والعراق وباقي الأمصار  يتناقشون في شؤون الثقافة والأدب والفكر والسياسة، وحين تحتد الأصوات كان صلاح يتدخل بروحه المرحة ودعاباته، فيضفي المحبة والألفة في المكان، ويخرج الجميع راضين مغتبطين كما دخلوا إليه، وكنت ما إن تجالسه حتى يحاصرك بفيض علمه وسعة ثقافته، ويبدأ بمناقشتك والاستماع إليك دون أن يشعرك أنه أكثر منك ارتواء من معين القراءات التراثية والحديثة، وقد التقيته عشرات المرات وتناقشنا واختلفنا لكنه لم يأخذ على خاطره يوماً، ولم يبد تذمراً أو زعلاً.
بعد مرضه زرته عديد المرات في المشفى وفي منزله في الشيخ خالد، لم يرفع صلاح برواري راية الاستسلام لذلك المرض الخبيث، وكان يتحدّثُ عن مشاريعه الغزيرة وكتبه الكثيرة التي لم تُطبَعْ من قواميسَ وكتبٍ في شتّى مناحي الثقافة واللغة الكردية، وكذلك اللغة العربية.

كان يبدي نشاطاً ملحوظاً في المطالعة والتأليف والترجمة، وقال لي: أشعر أيها الكوجري أني على مسافة قريبة من الموت، سأحاول أن أطبع أكبر قدر ممكن من كتبي قبل أن أغادركم، فداعبته: يا رجل ستأكل “مرقة” رؤوسنا جميعاً، واختلقت له قصة” كذبة” عن ابنة عمي” لا أعمام لي” المبتلية بدائه عينه، وكيف تعيش دون فم ” بالخرطوم”، قال : يا كوجري
بمقدوري الاستغناء عن فمي، لكنْ الماء ..

الماء، لو أستطيعُ شربَ الماء،  قالها بحسرة..

فدمعت عيوننا أنا وهو وصديقنا هيثم حسين الذي قدِمَ من عامودا الحرائق إلى الشام، ولم ينسَ أ ن يضيّفنا ” المن والسلوى قائلاً : هذه حلويات كردستان..

كلوها هنيئاً مريئاً، أعرف أن الكواجر يعشقون الحلو والحلاوة، وأهداني ثلاثة من كتبه المنشورة مؤخراً وهي: ليلة في حياة صقر الشمال، وقصائد من بلاد الثلج، وملك الكلمات، متمنياً أن أكتب عنها ” لم أكتب بعد..

اللعنة على ضيق الوقت والظروف والمشاغل”
اليوم، وفي أول الصبح هاتفني الصديق إبراهيم حاج عبدي، وما إن فتحت التلفون قلت له قبل أن أردَّ سلامَه: قل أي شيء، لكن لا تقل إن صلاح برواري قد رحل، فكان صمتُه أبلغَ من أيِّ كلام.
اليوم، كم نحن حزانى..

بائسون على رحيلك يا صلاح!!، كم وددنا أن نعزي الأخت الفاضلة أم آلان، قبل أن يشيعوك إلى مثواك الأخير في عفرين، حيث زيتون الله وجماله ونقاء إنسانه!!
أطلب من بيده الأمر وبالذات الأخت لمعان زوجته أن يحافظوا على إرث وتراث صلاح الزاخر، وأطلب من الاتحاد الوطني الكردستاني بالتحديد أن يضع الكاك صلاح وتراثه الثقافي جلّ اهتمامه، ويبادر إلى طبع كتبه المنشورة وغير المنشورة، لأن لصلاح برواري ديناً علينا جميعاً، علينا ألا نهملَه كرمى لروحه التي تعبت، وكلت، وخمدت من أجلنا جميعاً.

يا إلهي..

الجميلون..

لمَ يرحلون بهذه السرعة..

إما يصابون بسرطانات الجسم أو  سرطانات الهجرة ويدعوننا “نذوب” في بحر الحزن؟؟

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

شادي حاجي في السنوات الأخيرة، بات من الصعب تجاهل التحوّل المتسارع في نبرة الخطاب العام حول العالم . فالعنصرية والكراهية والتحريض عليهما لم تعودا مجرّد ظواهر هامشية تتسلل من أطراف المجتمع، بل بدأت تتحول، في أكثر الدول ديمقراطية ولم يعد ينحصر في دول الشرق الأوسط ( سوريا . لبنان – العراق – تركيا – ايران وو .. نموذجاً ) وحدها…

ياسر بادلي ليس اختيارُ الرئيس العراقيّ السابق، برهم صالح، مفوّضاً سامياً لشؤون اللاجئين حدثاً عابراً يمرّ على أطراف الأخبار؛ بل هو لحظةٌ ينهضُ فيها تاريخُ شعبٍ كامل ليشهد أن الأمم التي صُنعت من الألم تستطيع أن تكتب للإنسانيّة فصلاً جديداً من الرجاء. فالمسألة ليست منصباً جديداً فحسب… إنه اعترافٌ عالميّ بأنّ الكورد، الذين حملوا قروناً من الاضطهاد والتهجير، ما زالوا…

المحامي عبدالرحمن محمد   تتواصل فصول المسرحية التركية وسياساتها القذرة في الانكار والنفي للوجود التاريخي للشعب الكوردي على ارضه كوردستان، ومحاولاتها المستمرة لالغاء ومحو كلمتي كورد وكوردستان بوصفهما عنوانا للهوية القومية الكوردية والوطنية الكوردستانية من القاموس السياسي والحقوقي والجغرافي الدولي، سواء على جغرافيا كوردستان او على مستوى العالم. تارة يتم ذلك بحجة وذريعة الدين (الاسلام)، وتارة اخرى باسم الاندماج والاخوة،…

  إبراهيم اليوسف وصلتني صباح اليوم رسالة من شاعرة سورية قالت فيها إنها طالما رأتني وطنياً لكنها تجدني أخرج عن ذلك، أحياناً. رددت عليها: صديقتي، وما الذي بدر مني بما يجعلك ترين وطنيتي منقوصة؟ قالت: أنت من أوائل الناس الذين وقفوا ضد ظلم نظام البعث والأسد. قلت لها: ألا ترينني الآن أقف أيضاً ضد ظلم السلطة المفروضة- إقليمياً ودولياً لا…