صلاح بدرالدين
في صبيحة يوم ممطر من شتوية عام أربع وستين من القرن المنصرم وجريا على تنفيذ ما هو مقرر في كافة مدارس البلاد منذ تسلم حزب البعث السلطة كنت مع طلبة ثانويتنا في صفوف متراصة في الباحة الرئيسية وعلى استعداد عنوة لممارسة طقوس شبه عسكرية يومية في كل صباح اسمها ” تحية العلم ” وبكامل لباس – الفتوة – الكاكية اللون وبوقوف الأساتذة في الجهة المقابلة الأقرب الى باب الادارة وقيادة أحد الضباط المكلفين عادة من المخابرات العسكرية تتوفر فيه الشروط المطلوبة لتوجيه الحاضرين بترديد شعارات حزب البعث الحاكم : وحدة , حرية , اشتراكية و أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة – ولعدة مرات متتالية
ترك الملازم أول قائد تشكيلات الفتوة في ثانويات القامشلي هذا – انطباعا – سيئا في أوساط الطلبة لتصرفاته غير المستحبة ومزايداته القوموية لكونه لم يكن – حزبيا – ومن عائلة معروفة بنشاطها الاسلامي في مدينة – حماة – وتعامله العنصري مع الطلبة الكرد الذين كانوا أكثرية ساحقة وقد كان الوضع بالنسبة لنا في الهيئة المسؤولة عن منظمتنا الحزبية الطلابية في مدارس القامشلي أمرا مفهوما لأن السلطة دأبت على اختيار أكثر العناصر تشددا وشوفينية وقساوة وفسادا وارسالها الى الجزيرة والمناطق الكردية الأخرى خاصة في قطاعات الأمن والتعليم والشرطة والادارة وكان يكفي الموظف – من تلك الشاكلة والمواصفات – أن يخدم في الجزيرة عاما أو عامين ليعود ميسورا بواسطة الرشوة والاختلاس وفرض الأتاوات على المواطنين والقرويين البسطاء ومنهم من تحول الى مزارع وتاجر وحتى مهرب مواد ممنوعة وكان معظم الموظفين يقوم بتنفيذ واجبات – أمنية – وكتابة التقارير ضد المواطنين الكرد والمشاركة في عملية – التعريب – الى جانب الوظيفة الأساسية وقد عايشنا العشرات من هذه النوعيات في مناطقنا بينهم موظفون اداريون كبار ومدراء المدارس وأساتذة .
لم أكن محظوظا في ذلك النهار فقبل أن يتوقف صدى أصوات عشرات الحناجر المرددة لتلك الشعارات المفروضة حتى أشار الي الضابط – القائد للمثول أمامه ليخاطبني أمام أسماع وأبصار الجميع بلغة التخوين والوعيد الممزوجة بأقذع عبارات الشتائم لأنه لاحظ – وكان على حق – بأنني لم أشارك الآخرين في ترديد الشعارات مختتما – درسه في التربية القومية – بعبارة لن أنساها : ” اذا لم يعجبك هنا فانقلع الى عمك البارزاني ” مع اجباري على الزحف في الباحة الموحلة جيئة وذهابا لساعة كاملة عقابا على تمردي , بعد مضي أكثر من أربعين عاما على هذه الواقعة أعود لأطرح هذا السؤال : هل ممانعتي في تردديد شعارات النظام والمشاركة الطوعية في تحية علم الحزب الحاكم تعود الى كوني كرديا انفصاليا ؟ أم لأنني لم أكن وطنيا صادقا وخائنا للوطن كما اتهمني الضابط ؟ حقيقة الأمر لم يكن هناك قرار من الحركة الكردية ومن حزبي بالذات يقضي بمقاطعة شعارات الحزب الحاكم ونشيده الوطني ليس لأنها مقبولة بل لكونها مفروضة بالقوة مثل باقي الاجراءات اللاديموقراطية والقوانين الجائرة والمواقف المغايرة لتطلعات الأغلبية الشعبية وممانعتي كانت فردية واجتهاد شخصي لاثبات هويتي وتشخيص الخلل ليس الا وأظنها كانت سليمة للأسباب التالية :
الأول : أن هناك فرقا شاسعا بين العلم الوطني الذي يرتضيه جميع مكونات الوطن القومية والاجتماعية ويرون فيه انعكاسا وتعبيرا لوجودهم ومواطنيتهم وآمالهم مجسدا تضحياتهم في سبيل الاستقلال وطرد المستعمر وتحقيق الحرية وبناء الدولة وتاليا يحظى باحترام وتقدير الجميع وبين علم فئوي حزبي آيديولوجي فرضه نظام الحزب الواحد الذي جاء على ظهر الدبابة بمعزل عن الانتخابات الحرة وفي الحالة هذه وعندما يقاطع المواطن كرديا كان أم عربيا ذلك العلم وتلك الشعارات فانه يقوم بذلك بدافع تصحيح المفاهيم الوطنية نحو الديموقراطية والتعددية والمشاركة العادلة وليس طعنا بالمبادىء الوطنية انه يعبر بذلك عن رفض نظام الاستبداد المتسلط نهجا وسلوكا وشعارات ورموزا وليس الاساءة للشعب والوطن .
الثاني : لاقيمة لتبديل أي نظام دكتاتوري اذا لم يقترن باجراء تغييرات جذرية في البنية الآيديولوجية والدستورية والقانونية وفي ثقافة الحكم السائدة وكل الرموز والشواهد التي أفرزها الاستبداد وجاء بها بعد أن سيطر على مقاليد السلطة ومنها : نشيد بديل وعلم مستحدث وشعارات جديدة وخطاب جديد وأجهزة أمنية جديدة وابتكارات جديدة في التعذيب والترهيب وأحكام عرفية جديدة وممنوعات جديدة وسياسات قمعية وانتهاكات جديدة ضد الشعب الكردي مثل الحرمان من حق المواطنة والحزام العربي وتغيير التركيب الديموغرافي للمناطق الكردية لذلك فان الوطني العربي قاطع تراث وجديد الاستبداد قبل الوطني الكردي وهنا بالذات يستحضر ذهني مواقف المناضلين العربيين السوريين المعارضين السيدين أنور البني ونزار نيوف في مسائل تغيير الدستور والنشيد والعلم في سياق التغيير الديموقراطي المنشود في بلادنا الى جانب مطالبة قوى المعارضة وبشكل خاص – جبهة الخلاص الوطني في سورية – بوضع دستور جديد يمثل طموحات وآمال كافة المكونات الوطنية السورية .
الثالث : عندما يطالب الوطني الكردي في سورية أو العراق بتصحيح الوضعين الدستوري والقانوني على المستوى الوطني وازالة آثار الشوفينية والعنصرية فانه يعمل باتجاه تعزيز الوحدة والعيش المشترك في الحاضر والمستقبل وهذا دليل جديته في التعلق بوطن يتسع للجميع وتنتفي في ظله أسباب الفرقة والانقسام وتزول دوافع – الانفصال – وتتعزز شروط الاتحاد والتعايش السلمي والتلاحم بين المكونات القومية والدينية والمذهبية والاجتماعية والثقافية .
الرئيس بارزاني يبحث عن العلم الوطني العراقي
كان الدافع في الخوض بهذا الموضوع ما ظهرت من ردود فعل – مفتعلة – وغير سوية على دعوة السيد مسعود بارزاني رئيس الاقليم بعدم رفع علم النظام المخلوع في اقليم كردستان بما يرمز اليه من ابادة ومقابر جماعية والاكتفاء بعلم العراق الجمهوري بعد ثورة الرابع عشر من تموزالى جانب علم الاقليم لحين تنفيذ بنود الدستور العراقي وقيام البرلمان الاتحادي باقرار العلم الجديد الذي كان مفترضا البت فيه منذ أمد بعيد , أولى الردود الانفعالية صدرت من شوفينيي بقايا النظام المخلوع ودعاة الطائفية البغيضة الذين يعملون ليل نهار وبقوة السلاح والعنف السادي الأعمى والقتل على الهوية الطائفية والعاملين أصلا على ترسيخ الانقسام واقامة الكيانات المذهبية وما قبل القومية والمدنية هؤلاء الذين أقاموا الدنيا على قول الحق هم من يقفون حجر عثرة أمام مشروع التغيير الديموقراطي في العراق ويزرعون العراقيل أمام سير العملية السياسية ويعادون التقارب والتفاهم بين العرب والكرد وسائر المكونات القومية للنسيج الوطني ويرفضون مبدأ وتفاصيل حل المسألة الكردية على أساس الفدرالية التي ارتضاها الكرد وثبتها الدستور الجديد اسوة بأسيادهم في نظامي سورية وايران الاستبداديين .
ليس اعتراض هؤلاء على ما قرره الرئيس بارزاني بخصوص العلم ( فهو اعتمد علم العراق الجمهوري الوطني بديلا ) بقدر ما هي نيات مبيتة ومواقف سياسية مسبقة, نعم لا يروق لهؤلاء علو قامة السيد بارزاني عندما يحمل مشروعا وحدويا اتحاديا طوعيا في العراق والمناطق المجاورة كضمان لوحدة الكرد والعرب في اطار العراق الفدرالي الديموقراطي وحل المسألة الكردية سلميا وعبر الحوار والتطلع الى تحقيق شرق أوسط متغير عادل ومتوازن ومسالم انهم يريدون الانتقام من نهج السيد بارزاني حول الوحدة الوطنية والمصالحة والتسامح هذا الثالوث المقدس الذي ارتبط باسم الرجل منذ تحرير الشعب العراقي من الدكتاتورية والذي ورثه من سيرة البارزاني الخالد ومن ميراث – الكوردايتي – والذي ساهم بشكل أساسي في افشال مشروعهم التقسيمي التدميري وهو اعتراض على دعوته في عقد مؤتمر المصالحة في اربيل عاصمة الاقليم ورفض لدور الكرد الذين يمثلهم هذا القائد كحماة لوحدة واتحاد شعوب وطوائف ومذاهب العراق وكردستان كنواة نموذجية مستقبلية لاتحاد مكونات الشرق الأوسط بشعوبها وقومياتها ومعتقداتها وأطيافها , ان التاريخ يعلمنا بضرورة عدم التوقف كثيرا على رغبات أي شعب مثل الشعب الكردي يطالب باستعادة حقه في تقرير مصيرة كما يشاء لأن ذلك من حقه الطبيعي المعترف به عالميا بل البحث الجاد في الأسباب والمسببات والدافعين للآخر الكردي الى سلوك طريق الاستقلال والطلاق مع الشريك العربي وفي هذه الحالة التي نحن بصددها الآن يشار بأصابع الاتهام الى مجموعات شوفينية عربية تتربص الفرص والذرائع لتفرض على الآخر الكردي ورئيسه الشرعي المنتخب ما تتمناها هي أي – فصل – كردستان عن جسم العراق ليتسنى لها تنفيذ التقسيمات على أسس مذهبية ومناطقية والاستئثار في التسلط بواسطة العنف والارهاب في حين يشكل كرد العراق في شخص رئيسهم الضمانة الرئيسية الثابتة بهذه المرحلة وتكاد تكون الوحيدة في صيانة وتعزيز وحدة العراق وردع الارهابيين والدافعين باتجاه الانقسامات من خلال خطابهم الشوفيني الآيديولوجي على غرار الطاغية المخلوع وثقافتهم العنصرية المذهبية المرفوضة من شعب العراق ومن المجتمع الدولي .
من قدر الكرد أن يواصلوا دفع ثمن البحث عن المشترك الوطني مع الشعوب الأخرى ماداموا متمسكين بالحل الوطني لقضيتهم القومية وحاملين راية التغيير الديموقراطي والاصلاح والتعايش السلمي ومواجهة الارهاب الاصولي ومن قدر الرئيس بارزاني مواجهة التحدي مادام يقود أهم تجربة ديموقراطية حضارية في الشرق الأوسط ويمسك بمفتاح تغيير المنطقة نحو وضع يسود فيه السلام بين الشعوب والقوميات والأديان والمذاهب تحت ظلال مبادىء الاحترام المتبادل والديموقراطية والمساواة والشراكة العادلة .