العلمانية حجر الأساس في دولة الحق والقانون

حسين عيسو

–  أنتم أعلم بأمور دنياكم – حديث نبوي شريف .
– أطيعوا أميركم ولو كان فاسقا  –  بعض المشايخ المسلمين قديما .
– أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله , لله – كلام السيد المسيح .
–    من يحتقر أميره صاحب السيادة يحتقر الله الذي هو صورة عنه – الفيلسوف الفرنسي بودوان .

لن أدخل في سجالات حول تاريخ العلمانية وتفسيراتها , أن كانت قد بدأت في القرن السادس عشر أو بعده , وهل هي تعني العِلم ,أو العالم الدنيوي وغيرها من التفسيرات التي ذكرها العديد من الكتاب والباحثين , لكن وحسب رأيي فان العلمانية بدأت مع الإسلام .
فالحديث النبوي الشريف معروف , “أنتم أعلم بأمور دنياكم” قاله الرسول الكريم لأهل المدينة , ولا أرى أنه مرتبط بحادثة معينة فقط , كما يحاول البعض تفسيره , لتبرير ما يريدون , وإنما أرى أن الرسول الكريم قصد به النصيحة للمسلمين , فهو لم يذكر النخيل أو تأبيرها من عدمه , حين رد عليهم , وإنما كان قصده أنهم أعلم بشئون دنياهم , أما أمور الآخرة فهي دينية , والدليل : ألم يكن بإمكان النبي الكريم انتظار الوحي , لينصحهم بما هو أفضل حول تأبير نخيلهم .
لقد أراد الرسول الكريم , وهو الذي لا ينطق عن الهوى , وكان إذا ما سأله الصحابة عن أمر انتظر لقاء جبريل , فلماذا قال لأهل المدينة بعدم تأبير نخيلهم , ثم انكشف عكس ذلك , فقال كلمته “أنتم أعلم بأمور دنياكم” مع أن زراعة النخيل في المدينة كانت مهمة جدا ومورد رزق أهلها , لقد فعل الرسول ذلك وهو الذي كان بعيد النظر , ويستشعر المستقبل , ويعرف أن ربط أمرين : أحدهما ثابت لا يتغير , والآخر دائم التغير والتطور “الدين والدنيا” لا بد أن يكون تأثير ذلك فادحا على الأمرين معاً , مثل ربط عربة بعمارة شاهقة فالعمارة لا تتحرك , والعربة تبقى في مكانها , واذا كانت قوية فقد تؤدي الى بعض الأضرار بالعمارة دون أن تحركها وتبقى العربة في مكانها , لذا كان الحديث النبوي الشريف .
مجرد مثال : صلاة العصر أربع ركعات من يغير عدد ركعاتها يتهم بالكفر , كذلك حج البيت نفس المناسك لم تتغير منذ ألف وأربعمائة عام , لكن الوصول إليها , كان قديما على ظهر الدواب , أما اليوم بالطائرات النفاثة , ومثلها الحروب , كانت بالسيف , واليوم بالصواريخ والطائرات , فكل أمور الدنيا تتغير باستمرار .
 نشأت الديمقراطية ومفهوم المواطنية مع (المشرع ليكورغوس – أفلاطون وغيرهم) في المدن “الدول” الإغريقية ومنها انتقلت الى الإمبراطورية الرومانية “وحين اعتقل القديس بولس في فلسطين وأرادوا جلده طالب بمعاملته وفق امتيازات المواطنية الرومانية , التي كان يحمل مواطنيتها  والتي كانت تمنع مثل تلك  المعاملة لمواطنيها , فاضطروا الى توقيف جلده , وإرساله الى روما ليحاكم هناك” ,
بعد دخول المسيحية الى أوربا واعتبارها دينا للإمبراطورية الرومانية عام 383 م ثم تحكم البابوية بالسلطتين الدينية والدنيوية , الى درجة بيع صكوك الغفران , لم يبق أمام المتنورين سوى الوقوف في وجهها رغم ما في ذلك من مخاطر , حيث كان المهرطقون يتعرضون للموت حرقا , لكن جرأة مارتن لوثر ونشر مبادئه الخمسة والتسعين , الداعية الى فصل الدين عن الدولة , ثم جون كالفن الذي نادى بالحرية الفردية , كانت النتيجة , فصل الدين عن أمور الدنيا والدولة , لتخرج أوربا من العصور الوسطى الى عصر النهضة فالتنوير , ومن ثم تصل الى التطور العلمي التي هي عليه اليوم .
وبالنسبة لبلادنا , ألا يعتبر الحديث النبوي الشريف “أنتم أعلم بأمور دنياكم” دليلا ونصيحة , بالفصل بين الدين وأمور الدنيا .
ألم يكن ما دار في سقيفة بني ساعدة بعد وفاة الرسول , أمراً من أمور الدنيا , حين تم التشاور حول اسم الخليفة , فلو كانت من الأمور الدينية , لكان الله تعالى أخبر الرسول الكريم بأسماء خلفائه .
أرى أن محاربة العلمانية من قبل بعض رجال الدين في منطقتنا جاءت نتيجة لحدثين هامين الأول هو : الحرب التي أعلنها كمال أتاتورك على الإسلام باسم العلمانية , مع أنني أرى أن أتاتورك لم يكن علمانيا , وانما كان مستبدا , مقلدا للغرب , حتى يحظى بدعمهم , ويتمكن من المحافظة على ما تبقى من امبراطورية كانت على وشك الموت نهائيا , فمن أهم مزايا العلمانية , احترام الآخر الوطني المختلف دينيا أو قوميا وحماية معتقده وثقافته , وهذا ما كان بعيدا عن فكر أتاتورك وعسكره , الحدث الثاني : وصول الشيوعية الى منطقتنا , بفكرها الإلحادي وادعائها العلمانية هي التي دفعت الكثير من رجال الدين الى محاربة العلمانية واعتبارها عدوة للدين , ولكن اذا عدنا الى أكثر من قرن مضى , أي قبل بروز أتاتورك ووصول الشيوعية إلينا , نجد أن المتنورين من رجال الدين لم يقفوا بوجه العلمانية , بل طالبوا بها فنرى مثلا “الشيخ رفاعة الطهطاوي” وهو أول من استخدم تعبير “الأمة المصرية” منذ ما يقارب القرنين من الزمان , بعد عودته من فرنسا , يقول عن الفرنسيين : (لتعرف كيف حكمت عقول الفرنساوية “الكفرة” بأن العدل من أسباب تعمير الممالك وراحة العباد …والحرية قرينة المساواة ! , ويقارن بين الحاكم المصري والفرنسي فيقول : الملك في فرنسا ليس كولي النعم في مصر حاكما مطلق التصرف ..

إنما هو حاكم بشرط أن يعمل بما هو مذكور في القوانين التي يرضى عنها أهل الديوان “البرلمان” ) .وبعد الطهطاوي , يأتي الشيخ المتنور “محمد عبدة” الذي رفض رفضا قاطعا اقتران الحكم بسلطة الدين ويقول : (ومن الضلال القول بتوحيد الإسلام بين السلطتين المدنية والدينية , فهذه الفكرة خطأ محض , ودخيلة على الإسلام , ومن الخطأ الزعم بأن السلطان هو مقرر الدين …).
ثم يأتي عبد الرحمن الكواكبي الذي هرب الى مصر ليحارب الاستبداد من هناك ويدعو الى وحدة المسلمين والمسيحيين ويقول : (دعونا ندبر حياتنا الدنيا , ونجعل الأديان تحكم في الآخرة فقط ).
وأخيرا , الشيخ علي عبد الرازق وزير الأوقاف المصري عام 1947 وكتابه “الإسلام وأصول الحكم” يقول فيه : ( الحكم والحكومة والقضاء والإدارة ومراكز الدولة جميعا أمور دنيوية صرفة , لا شأن للدين بها , فهو لم يعرفها ولم ينكرها ..وإنما تركها لنا , لنرجع فيها الى إحكام العقل وتجارب الأمم , وقواعد السياسة  …..

ويؤكد في كتابه , أن أبا بكر الصديق الذي أطلق على نفسه لقب خليفة , كانت بيعته ثمرة اتفاق سياسي , ومن ثم فان حكمه , كان حكما مدنيا , واجتهاده كان اجتهادا دنيويا , لا علاقة له بفكرة الدولة الدينية).
أرى أن فصل الدين عن الدولة ,هو حجر الأساس في بناء الدولة المدنية الحديثة , دولة القانون الذي يتساوى أمامه جميع المواطنين , والتي تحترم وتعترف بهويات الجميع “أثنية , دينية ,مذهبية” وتكفل لهم ممارسة حقوقهم بحرية , بعيدا عن التعصب العنصري أو الديني أو المذهبي , وهذه هي المواطنة الحقيقية , فالوطن لا يمكن أن يكون كيانا صحيحا , إلا إذا تم فيه احترام حقوق الإنسان وقيمه التي تتطور إلى عامل إغناء وثراء حين يشعر الإنسان بانتمائه الحقيقي لهذا الوطن , والنتيجة قوة هذا الوطن ومنعته  وازدهاره .
في : 28/06/10
Hussein.isso@gmail.com

      

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…

اننا في الفيدرالية السورية لحقوق الانسان والمنظمات والهيئات المدافعة عن حقوق الإنسان في سورية، وبالمشاركة مع أطفال العالم وجميع المدافعين عن حقوق الطفل وحقوق المرأة وحقوق الانسان، نحيي احتفال العالم بالذكرى السنوية الثلاثين لاتفاقية حقوق الطفل، التي تؤكد على الحقوق الأساسية للطفل في كل مكان وزمان. وقد نالت هذه الاتفاقية التصديق عليها في معظم أنحاء العالم، بعد أن أقرتها الجمعية…

نظام مير محمدي* عادةً ما تواجه الأنظمة الديكتاتورية في مراحلها الأخيرة سلسلةً من الأزمات المعقدة والمتنوعة. هذه الأزمات، الناجمة عن عقود من القمع والفساد المنهجي وسوء الإدارة الاقتصادية والعزلة الدولية، تؤدي إلى تفاقم المشكلات بدلاً من حلها. وكل قرارٍ يتخذ لحل مشكلة ما يؤدي إلى نشوء أزمات جديدة أو يزيد من حدة الأزمات القائمة. وهكذا يغرق النظام في دائرة…