m.yousef@gawab.com
صيف الحسكة كامد وهامد من شدة الحر, وتصل درجة الحرارة في حقول القطن أحيانا الى الخمسين,ويد السلطة ثقيل هو الآخر على الناس,و تختلط قسوة الطبيعة مع قسوة موظفي النظام وتطال كل الناس.
كانت أم ولات تطعم أطفالها في استراحة الغداء بالقرب من ساقية الماء الرئيسية في العراء تحت أشعة الشمس الملتهبة وسط حقل القطن, وتدندن بين حين وآخر أغنية كردية تندب فيها حظها العاثروعذابات الأيام,وشاءت الصدفة أن مر بجانبها مدير مزارع الدولة المهندس المدعو أبو قتيبة ونهرها وشتمها وأمر بفصلها وأبناءها عن العمل لأنها لم تستطع تطبيق تعليماته الهميونية, وتمتنع عن الكلام باللغة الكردية مع أطفالها في حقل القطن, وجمت أم ولات وذهلت من شدة الصدمة وغاصت في تلافيف المشكلة, وطوقتها أنياب الحيرة, هل ترد عليه بشتيمة أكبر؟لكنها أبت في اللحظة الأخيرة ,وراحت تسرح بأفكارها المحدودة بعيدا:
– الممارسات الجائرة بحقنا,ألأننا أكرادا يعاملوننا بهذه القسوة!!!!,وتسآلت بتهكم :
– ولكن لماذا يمنعوننا من التكلم باللغة الكردية مع أطفالنا,أننا لانعرف العربية كي نتكلم بها!!!!
واستاء العمال وتضامنوا معها وأوقفوا العمل في الحقل,وطار صواب المدير:
– أشكون السالفة,التعليمات واضحة ,ممنوع التكلم بلغة غير اللغة العربية!!!.
وتصدت له أم أوصمان وطلبت مترجم,,وتطوع أبو أوصمان وتولى الترجمة:
جناب المدير المحترم:
– ان ماتطلبه منا يتجاوز طبيعة العمل الذي نقوم به,أننا عمال مياومين في حقول القطن, نشرب الماء الساخن, ونقضي النهار كله تحت لظى هذا الصيف اللاهب,ونقوم بعملنا على أحسن وجه,ونتحمل هذا القيظ الشديد مرغمين من أجل تأمين لقمة العيش لأطفالنا,أننا لسنا عرب حتى نتكلم باللغة العربية,أننا أكرادا يا سيدي أكرادا هل في ذلك جريمة ,ثم أننا لانجيد اللغة العربية أصلا حتى نتكلم بها ارضاءا لرغبة جنابكم المحترم,انكم بتصرفكم الطائش اللامسؤول هذا قطعتم رزق عائلة وطنية فقيرة,ويؤسفني أن أقول لكم أن هذا تصرف عنصري و شكل من أشكال التمييز تجاه فئة من أبناء سوريا!!!!.
غضب المدير وعدل الطاقية الواقية من أشعة الشمس على رأسه واقترب من أم أوصمان وصرخ في وجهها:
– يهود وانفصاليون..الاضراب عن العمل ممنوع,والتكلم ممنوع- كان يقصد التكلم بغير العربية –عودوا الى العمل والا…؟!!!!!!.
كان أبو أوصمان رجلا ذكيا يسبر أغوار الروح البشرية, ويتقن القراءة في أعماق الانسان المقابل ,وشجاعاعند الضرورة, لايخاف لومة لائم ,كان يصغي و يترجم جواب المدير حرفيا وثارت ثائرته وطار صوابه وانتفض:
– ماذا تقصد …….بعبارة يهود وانفصاليون …وعبارة والا؟ هل نحن بحق يهود وانفصاليون بنظر شخصكم الموقر,هل لديكم أدلة على هذا الاتهام!!! هل تريد تسليمنا الى أجهزة الأمن ليقطعوا ألسنتنا؟ اسمع يا أخي وخذها من الأخير,أنا أعلم والكل يعلم أنك مدير انتهازي تداري هزائمك وانكساراتك وفشلك بهذه الاتهامات الباطلة,وأنك غير كفء لادارة هذا المشروع, وحرامي ومتسلق وعديم الوجدان والضمير وجبان,وادارتك فاشلة ومؤسستك خاسرة, وأنت وأمثالك من اللصوص فوق القانون,ولا أحد يحاسبك, لأنك عضو في الحزب الحاكم وعبد لأجهزة الأمن , ثم من أعطاك الحق لتقمعنا, ولتكيل لنا هذه التهم ؟من وكلك هذه المهمة؟هل أنت قاض؟,هل ارتكبنا خيانة وطنية لاسمح الله؟ اللغة الكردية – ياأخي- واحدة من لغات بلدنا الحبيب سوريا,لم نسلبها من أحد, ولم نستوردها من الخارج,انها لغة جزء من مكونات الشعب السوري, ينبغي الاعتراف بها رسميا الى جانب اللغة العربية, وينبغي احترامها وتطويرها ,وفتح المدارس لتعليمها في المناطق الكردية , ويجب أن لاتعمينا نزعة هنا أو هناك عن حقيقة أن سوريا شجرة كبيرة وافرة الظل متعددة الفروع والأغصان, وتهميش أوقص أو استئصال فرع أوعدة فروع من جسمها, أوتركها لفرع واحد يفقدها توازنها ويعرضها للسقوط في مواجهة الرياح,!!!,أننا لانخاف منك ,أننا نخاف على سوريا منك ومن أمثالك , لقد نصبتم أنفسكم أوصياءعلى شعب سوريا, واحتكرتم الوطن والحقيقة والصواب,وكل من يخالف رأيكم أويعارضكم اما خائن أوعدو.
واحتدم التلاسن بين أبي أوصمان والمدير وازدادت حدة التوتر بينهما وثارت ثائرتهما,وتبادل الطرفان الاتهامات و الشتائم وصرخات التهديد والوعيد,وتشابكا بالأيدي والأرجل, وتبادلا اللكمات على الصدر والرأس والوجه,وسقطا وتعاركا على الأرض, وتعفر الأثنان بالتراب وتعبا وأخذا يلهثان, وفكا الاشتباك دون تدخل من أحد وابتعدا, واستلقى كل منهما على صفحة وغابا في الصمت,كان المشهد دراماتيكيا مثيرا للشفقة والحزن معا,هدأ أبو أوصمان وتناول علبة الدخان المعدنية من جيبه ولف سيكارة,وأشعلها وأخذ مجة و نظر باتجاه المهندس:
– أنا آسف…..كان بالامكان أن نتفاهم بالحوار ومقارعة الحجة بالحجة,ولكن ماحصل قد حصل.
استجمع المهندس ما تبقي لديه من عزم واعتدل وجلس على طرف الساقية وغسل وجهه وأجاب:
– أعتذرأيضا!! لقد أسأت اليكم……لم أقصد….
وقبل أن يكمل جملته الأخيرة أسرع أبو أوصمان باتجاهه وصافحه:
الخ
كان المهندس يستمع باهتمام الى كلام أبو أوصمان,التقط أنفاسه وعدل ياقة قميصه ونفض التراب عن ثيابه وأجاب:
– أتفق معك , يجب أن نقرأ التاريخ لنستفيد من تجارب الآخرين,لم يعد بوسع أحد سلب الآخر حقه تحت أية ذريعة وأي عنوان,والأوطان كبيرة وواسعة وتتسع للجميع,وليس من حق أي شعب مهما كان شأنه التجاوز على حق الآخر,ولكل أمة, أقلية كانت أم أكثرية خصوصيتها, ومن حقها ممارسة حياتها الطبيعية على أرضها التي تعيش عليه دون تتضيق أوممانعة من أحد.
كان العمال الأكراد من جهة والموظفين المرافقين للمدير من جهة أخرى مذهولين لهول ما جرى, متوفزين يتابعون المشهد بأعصاب مشدودة, يراقب كل طرف الطرف الآخر بمنتهى الحذر, وبدا الجميع وكأن على رأسهم الطير, ينتظرون الاشارة للتدخل, ونجحت حكمة كل من أبي أوصمان والمهندس ورجاحة عقلهما في وأد المشكلة في مكانها ,وانتهت المسألة بالتفاهم, الأمر الذي أدى الى انفراج الموقف ,وانفرجت أسارير الجميع, وهدأت النفوس ومالت الى الهدوء والسكينة ,وتابع العمال و الموظفون عملهم.