قناة «التركيّة»: صورة صارخة للهويّة والوجهة

اسطنبول – هوشنك أوسي

ماذا يعني أن تخصّص قناة «التركيَّة» برنامجين خاصّين بالطبخ، هما «مطبخ القصر» و«دعوة الى العشاء»، وأن تخصص برامج للترويج السياحي في تركيا، وهي: «جولة في اسطنبول»، «المرشد السياحي»، «شاهد على التاريخ»، «الرّحال»، «المغامرون»؟ هل يعني هذا، من جملة ما يعني، أن الأتراك يسعون الى كسب عقول العرب عبر مخاطبة بطونهم، وإبهار نواظرهم؟ وماذا يعني أن تخصص هذه القناة برنامجين في السياسة، يبثّ الأوّل من تركيا، بعنوان: «من اسطنبول»، والآخر من بيروت: «مدارات»، يستضيفان كتّاباً وأكاديميين ومثقفين عرباً، يتبارزون في ما بينهم لجهة أيّهم الأكثر قدرة على مدح تركيا وسياستها الخارجيّة ودورها الإقليمي الوازن…
من دون ان يستضيف هذان البرنامجان مَن ينظّر للمشهد مِن زاوية أخرى مختلفة، ويعطي رأياً مختلفاً، بعيداً من ذهنيّة التهافت والتطبيل؟ على الأقل، بغية خلق نوع من التوازن بين الآراء، وإحاطة المشهد مِن الجوانب كافّة.


هذه الأسئلة وسواها، لم يعد طرحها مجدياً، بالنظر إلى متابعة أداء قناة «التركيّة» الناطقة بالعربيّة، لأنّ هذا الأداء، كاف لإعطاء الجواب عن الأسئلة التي طرحها كاتب هذه السطور، في مقالة سابقة له، في هذه الصفحة، حول الموضوع ذاته، ما فسّره البعض، بأنّه «تهجّم» و«سخرية» وكتابة لا تجانب العلميّة.


وبالعودة لموضوع القناة، والخلل الكامن والواضح فيها، يمكن ان ننطلق من اسمها الملتبس؛ «تي ار تي التركيّة».

وللذي لا يعلم، أن «تي آر تي» هي الأحرف الثلاثة الأولى من عبارة «التلفزة والإذاعة التركيّة» في اللغة التركيّة.

يعني، كان الأجدى أن يكون اسمها «تي آر تي العربيّة» تماهياً مع «بي بي سي العربيّة» أو «سي ان ان العربيّة»، أو أن يكون لها اسم آخر، باعتبار أن رمز «تي آر تي / TRT» أساساً يشير إلى الهويّة القوميّة والوطنيّة للقناة، ولا يوجد أي داعٍ لتسميتها بـ «التركيّة».

اعتقد أنّه كان الأنسب لها هو اسم «تي ار تي العربيّة».

فهنالك نسخة من «سي ان ان»، مرفقاً بها كلمة «تُرك» في تركيا، لأنّ «سي ان ان» معروفة الماركة والتوجّه والانتماء.
وكمثال آخر على الخلل والارتباك الذي يشوب أداء هذه القناة، انتقاء البرنامجَين الحواريَيّن «مدارات» و «من اسطنبول» للموضوع ذاته في الأسبوع ذاته، وهو «الملفّ النووي الإيراني».

ما يوحي وكأنّه لا يوجد تنسيق بين البرنامجين في اختيار المواضيع، منعاً للتكرار.

من دون أن ننسى التباين الواضح الذي يمكن تسجيله لمصلحة «مدارات»، قياساً بـ «من اسطنبول» لجهة المهنيّة والأداء وحيويّة إدارة الحوار الذي باتت ربى عطية تحققه بالتراكم.
أمّا عن الجامع المشترك بين مجمل برامج هذه القناة، فهو محاولة إقحام المديح للسياسة التركيّة، والحزب الحاكم وزعيمه، أيّاً كان الموضوع!.

الحقّ أن هذا الانزلاق المدائحي للسياسة التركيّة، لم تفعله بهذه الفجاجة، زميلاتها الأخرى من القنوات الأجنبيّة الناطقة بالعربيّة كـ «العالم» للسياسة الإيرانيّة، و«بي بي سي العربيّة» للسياسة البريطانيّة، و«الحرّة» للسياسة الأميركيّة… وليس القول هنا: إنّه ممنوع على «التركيّة»، (وهي بالنهايّة، قناة رسميّة تابعة للدولة)، ألاّ تسوّق للسياسة التركيّة!.

لكن، أن يأتي المعنيون بها، ويقولوا: «هذه القناة ليست للتسويق لتركيا سياسيّاً واقتصاديّاً، بل للتعريف بها»، ثم نجد في أداء هذه القناة ضدّ هذا الكلام، حينئذ يتبدّى منسوب الصدقيّة والنيات في التعاطي مع العالم العربي ومشاكله وقضاياه.


ولا يمكن اغفال خيط قومي واهن، أو نغمة قوميّة تركيّة، تسود كل البرامج، حتّى في البرامج الحواريّة الثقافيّة.
نقطة أخرى، لا يفوتنا التنويه بها، هي عناوين البرامج.

إذ ينتاب الإنسان شعور بأنها مترجمة وضبابية.

فهنالك برنامج على شاكلة برامج الكاميرا الخفيّة اسمه «لو سمحت»، وهو مدبلج للعربيّة العاميّة – الشاميّة، يبدو عنوانه باهتاً، وغير منسجم لحركيّة الكاميرا الخفيّة ومقالبها.

ناهيكم بأن الدبلجة، تشتط حيناً، إذ يقحم المدبلِج، أغاني سوريّة محليّة، على لسان صاحب المقالب، لا علاقة لها بالأجواء التركيّة أبداً.

وهنا، تسرف الدبلجة في الافتعال.
ولأن الشيء بالشيء يذكر، فعلى صعيد الدبلجة، يبدو أن الشركات السوريّة هي التي تحتكر سوق الدبلجة التركيّة، عربيّاً وتركيّاً.

ولا نرى دبلجات للأعمال الدراميّة التركيّة للمصريّة أو الخليجيّة أو المغاربيّة، أقلّه من باب التنويع.
بالتأكيد ثمّة ما هو إيجابي ومهم ولافت في هذه القناة.

ولكــن بغية زيادة منسوب هذه الإيجابيات، يجب لــفت الانتــباه للســلبيّات، بغيــة التـقليـل منـها.

عن صحيفة الحياة اللندنية

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. بعض السجناء أمضوا…

شكري بكر هذا الموضوع مطروح للمناقشة قد يؤدي بنا للوصول إلى إقامة نظام يختلف عما سبقونا من سلاطين وحكام وممالك وما نحن عليه الآن حيث التشتت والإنقسام وتبعثر الجهود الفكرية والسياسية والإقتصادية والعمل نحو إقامة مجتمع خال من كل أشكال الصراع وإلغاء العسكرة أرضا وفضاءا التي تهدر 80% من الإقتصاد العالمي ، إن تغلبنا على هذا التسلح يمكن…

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…