كيف نفهمُ الحرّية؟!…. الحلقة الثانية

نارين عمر
متابعة لرحلةِ بحثنا عن مفهومٍ حقيقيّ للحرّية اسمحوا لي عرضَ صورةٍ أخرى من الصّور التي اقتبسناها من مرآة الواقع والتي هي بحدّ ذاتها مرآة مجبولة من أنفاس كلّ منا أضفناها لرحم ما نسمّيها العادات والتقاليد التي نظلّ نغزلُ على نولها الكواليس التي تخفي عيوبنا وخنوعنا واستسلامنا لها.
دعوني ألخّصُ هذه الصّورة بقصّةٍ متكرّرة الحدوثِ/ حدثاً وموضوعاً وشخصياتٍ/ في كلّ زمان ومكان منبثقةٍ بدورها من الواقع بكلّ إسقاطاته وتجلياته وتبعاته
رجلٌ فقير يتزوّجُ بامرأةٍ فقيرةٍ مثله, ومستورة, ينجبان أبناءً وبنات, يتعاونان معاً في كلّ أمور الحياة, يضعان معاً اللبناتِ الأولى لجحريهما المتواضع للآخرين والقصر الفاخر بالنّسبةِ لهما فتبدو على الرّجل دوماً علاماتُ الرّضا على الرّغم من تسلل بعض التذمر عليها أحياناً, ولا يرى في زوجته سوى الدّعامة الأساسية للبيت, والأمّ المثالية لأطفاله فيسيرُ بهم دولابُ الحياة نحو التقدّم والأمام كما
غيرهم من البشر, وفي إحدى المرّات يتوقفُ الدّولابُ بهم للحظاتٍ ليُريَهم ما لم يروه من قبلُ, يريهم الماردَ الذي يسمّي نفسه بـ/ الحظ أبي السّعد/ فيقولُ لهم:
( شبّيك لبيك الحظ أبو السّعدِ بين يديك) فتسيطرُ عليهم نوبة الهوَس والدّهشة,وبعد أن يستفيقوا منها ينظرُ الرّجل إلى زوجته بلهفةٍ ويغمز لها بالمستقبل الباسم, ولأولاده بمختلفِ أصنافِ الحلوى والمشاوي اللذيذة وما هي إلا ردحٌ من الزّمن حتى يضجّ جيبه بزقزقةِ الليراتِ التي تتناغمُ مع جيوبه الأخرى الملتصقة بجاكيت طقمه الفاخر الذي ابتاعه ليتباهى به أمام الآخرين, فيتوجّه إلى المرآة, يقفُ أمامها, يتأمّلُ في شخصيته مطوّلاً, ليردّ عليه توأم نفسه الآخر:
يا رجل إلى متى ستظلّ ترضخُ لتبتلات الرّضا والقبول بالأمر الواقع؟ انظر إلى تلك المرأة المتخلفة التي تشارككَ الحياة في هذا البيت الأنيق, وفي سيارتكَ المدللة, بالله عليك ألا تخجلُ من نفسكَ وهي برفقتك؟! ألا ينتابك شعور النقص وأنتَ تعرّفها بالناس وتعرّف الناسَ بها وعليها؟! ومَنْ هؤلاء الصّيصان التي تلتفُّ من حولك ؟ أيُعْقَلُ أن تتباهى أمام الآخرين أنّكَ أبٌ لمثل هؤلاء وأنت الرّجل الأنيق, القادر, المقتدر؟؟ من حقّكَ أن تعقد صفقة جديدة مع الحياة والوجود.

فيصدّق الرّجل كلّ ما سمعه, ويبدأ أوّلاً مع زوجته التي لا تليقُ بمقامه المرموق, وإنّه لا يحبّها ويبدي دهشته الكبيرة في كيفية تعايشه معها خلال هذه السّنوات الطويلة, خاصة وانّه قد تزوّجها مكرهاً, لذلك فمن حقه أن يشاور قلبه لاختيار مَنْ تليقُ به مالاً وجمالاً ومقاماً, ليبدأ بالغوص في قاموس الصّفات والخلال السّيئة, ويختار منها الأسوأ ليلصقها بزوجته.
ولأنّه يريدُ التمتع والاستمتاع بما تأتي من السنين, بعدما استهلك ما فات من عمره في موقد الرّماد, يقرّرُ الابتعاد عن زوجته وأولاده, ويعطي لقلبه ووجدانه إجازة مفتوحة.
الناسُ إزاءه منقسمون بين موافق ومعارض, ومستهجن ومؤنّب لكنهم في النهاية يتفقون على حقه في الزّواج بثانية, مستندين إلى حكمٍ وأمثال ينزلونها إلى أرض الواقع طبقاً لرغباتهم ومشيئتهم( مَنْ راقبَ الناس مات همّاً,لا تتدخل فيما لا يعنيك لانعرف ظروف الرّجل حتى نحكم عليه…………).
أمّا زوجته المسكينة التي تبدأ معارضة قوية الجناح والجبين, تنتهي إلى امرأةٍ مسالمة خانعةٍ, منكسرة, وتضطرّ للاستسلام للقول المأثور الذي طالما هزّ فكرها وكيانها حتى كاد أن يصيبهما بالشّلل والعطب( المكتوب على الجبين لا بدّ من أن تراه العين).
وأوّلُ ما تفعله أنّها تغلفُ عاطفتها وما تحمله من مشاعرَ وأحاسيس الشّخصية والذاتية في عُلَبٍ محكمة الإغلاق وترميها في قاع يمّ عميق , عميق لتحلّ محلها عاطفة الأمومة , بعدما تمزجها بعاطفة الأبوّة التي لملمَ أشلاءها ممّا فرّط به الأب, لتنشأ منهما عاطفة تعجزُ كلّ مفردات النطق التعبير عنها.

وتستمرّ بها الحياة وبأولادها وتسرقها وهي تعصر الدّماء السّارية في شرايينها كي تجعل منها طعاماً وشراباً وكساء لأولادها الذين يكبرون عاماً بعد عام, فتكبرُ معهم روح طموحاتها وآمالها بالفرج الذي سيعرفُ طريقاً إليها يوماً ما.

لكنها وبعدَ أن يُلوّحُ لها في الأفق مجيء هذا اليوم تُفاجَأ بما لم يكن يخطر على البال من قبل, وما لم تحسب له حساب فالرّجل الذي تنكر لأبوّته, وسلم مصير أولاده لرياح الزّمن وزوبعته تذكر اليوم أنّه أبٌ, وأنّ له أولادٌ ومن حقه بسط وصايته عليهم كيفما يشاء, ومتى ما شاء.

وحينما تحاولُ الزوجة صدّه وردّه, يشهرُ في وجهها خناجر القانون/ قانون الأبوة والبنوّة, وقانون الأحقية وقانون الأعراف والشّرائع, وقانون الأديان السّماوية وغير السّماويّة……………) فلا يدعُ قانوناً يتماشى مع رغباته وطلباته إلا ويذكرها به.
وحينما تحاولُ المسكينة الاحتكام إلى ما يسمّونه المجتمع  أو الآخرين والذين كانوا شهود عيان على المصائب والنوائب التي حلت بها وعليها, تجدُ الكثير منهم قد تحوّلوا إلى شهود دفاع عن الزّوج المصون, ويملون عليها ما كان الزّوجُ يردّده من القوانين والحقائق والثوابت التي صارت تحفظها عن ظهرقلب.
لتكون هذه العبارات بمثابة الضّربةِ القاضية, تقضي على بقيّة الرّوح التي كانت تسندُ جسدها الضّعيف الهشّ, ولتتركَ العنان لعقلها المتعاون مع قلبها في إطلاق صرخاتٍ مدوّية ولكن هل من مجيب؟؟!!:
هل حقاً هناك قانونٌ يسمحُ للرّجل بتركِ زوجته وفي عهدتها أولاد ولا يذكرهم, أو يتذكرهم إلا بعد أن يصلوا إلى البلوغ على جسر مشيّدٍ من مشاعر وأحاسيس أمّهم؟! هل حقاً هناك قانونٌ يسمحُ للرّجلِ أن يحلّ ويحلل لنفسه ما يحرّمه على أولاده وزوجته؟؟! وهل هناك عرفٌ يمنحُ الحرّية لمشاعر الرّجل ويكبّلُ عواطف المرأة بقيودٍ من فولاذ؟؟؟وهل قانون الحبّ ذو وجهين متناقضين حلالٌ للرّجل وحرامٌ على المرأة؟!!!
بالله عليكم أخبروني: مَن الذي سنّ مثل هذه القوانين؟ وفي أيّ عصر؟ وإلى متى سيظلّ مفعوله سارياً, فتاكاً؟؟…هل من مجيب؟؟؟!!!

 

وللحديث بقيّة فما زال في الجعبة عشرات الصّور……..

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين نحن في حراك ” بزاف ” أصحاب مشروع سياسي قومي ووطني في غاية الوضوح طرحناه للمناقشة منذ اكثر من تسعة أعوام ، وبناء على مخرجات اكثر من تسعين اجتماع للجان تنسيق الحراك، وأربعة لقاءات تشاورية افتراضية واسعة ، ومئات الاتصالات الفردية مع أصحاب الشأن ، تم تعديل المشروع لمرات أربعة ، وتقويم الوسائل ، والمبادرات نحو الأفضل ،…

أحمد خليف أطلق المركز السوري الاستشاري موقعه الإلكتروني الجديد عبر الرابط sy-cc.net، ليكون منصة تفاعلية تهدف إلى جمع الخبرات والكفاءات السورية داخل الوطن وخارجه. هذه الخطوة تمثل تطوراً مهماً في مسار الجهود المبذولة لإعادة بناء سوريا، من خلال تسهيل التعاون بين الخبراء وأصحاب المشاريع، وتعزيز دورهم في دفع عجلة التنمية. ما هو المركز السوري الاستشاري؟ في ظل التحديات…

خالد ابراهيم إذا كنت صادقًا في حديثك عن محاربة الإرهاب وإنهاء حزب العمال الكردستاني، فلماذا لا تتجه مباشرة إلى قنديل؟ إلى هناك، في قلب الجبال، حيث يتمركز التنظيم وتُنسج خططه؟ لماذا لا تواجههم في معاقلهم بدلًا من أن تصبّ نيرانك على قرى ومدن مليئة بالأبرياء؟ لماذا تهاجم شعبًا أعزل، وتحاول تدمير هويته، في حين أن جذور المشكلة واضحة وتعرفها جيدًا؟…

عبدالحميد جمو منذ طفولتي وأنا أخاف النوم، أخاف الظلمة والظلال، كل شيء أسود يرعبني. صوت المياه يثير قلقي، الحفر والبنايات العالية، الرجال طوال القامة حالقي الرؤوس بنظارات سوداء يدفعونني للاختباء. ببساطة، كل تراكمات الطفولة بقيت تلاحقني كظل ثقيل. ما يزيد معاناتي أن الكوابيس لا تفارقني، خصوصًا ذاك الجاثوم الذي يجلس على صدري، يحبس أنفاسي ويفقدني القدرة على الحركة تمامًا. أجد…