تجربة مجتمعية في الحراك السياسي الكردي.. المجلس العام «نموذجاً»

ميداس آزيزي
midaseazizi@yahoo.com  

من المعلوم أنه لم يمض على  تأسيس المجلس العام للتحالف الديمقراطي الكردي في سوريا إلا سنوات، وهي قليلة قياسا بما حمله من مشاريع ذات مضامين ودلالات حداثوية ، تلامس روح العصر وتشكيلاته السياسية والاجتماعية والثقافية.

ومقارنة هذه المشروع بالمدى الزمني الذي تحقق فيه يرينا تراكماً للعقل التطهري على الساحة السياسية.

ينبئ بقدر كبير من الحساسية للناتج التطوري، التي أمكن أن يفرز بمجرد طرحها، لكونها تمس قواعد وجود ومصالح مجموعات تموضعت على حافة التطور الإنساني بشقيه “معارضة وسلطة” .
وعلى مر خمسة عقود عاشت مجتمعاتنا خارج حركة التاريخ تفاعلا واحتكاكا ، وبسبب ممارسات سياسية مشوهة وأحادية الطريق نشأت من طبيعة خصائص الحكم في تلك العقود ، حيث حملت  الممارسة السياسية حينذاك خصائصها هذه ، بسبب طبيعتها المستنسخة من نماذج شمولية ،أنجبتها التجارب الشيوعية في منظومتها السياسية بداية القرن العشرين من الألفية الثانية.

هذا النموذج من العمل السياسي شكل سداً أورث انعدام الثقة في النشاط السياسي لكافة قوى المجتمع ، لدرجة أن عدم الثقة أصبحت سمة شرعية تمتاز بها الساحة السياسية ، نتج عنها غياب كامل لأي دور للفعاليات المجتمعية في النشاطات السياسية ، وصبغت الساحة السياسية بآثار النشاط الحزبوي  العقائدي الضيق .

مما أدى في نهاية المطاف إلى مآس ٍ مريرة في الممارسة ، انعكست واقعياً على جميع أحزاب السلطة والمعارضة على حد سوء .

ولهذا أخذ خطاب هذه الأحزاب جميعها يدعي تمثيلهُ لمختلف شرائح المجتمع، بينما هو في حقيقته يقوم بإقصاء ونسف أي علاقة تظهر استقلالية المواطن في إطار منظومة العمل السياسي.

وهذا الناتج الواقعي بات يؤرق العاملين في الحقل السياسي لتجاوزه في صياغات مشاركتهم الآن .

وإن كان لي أن استشهد بنص يكشف ذلك كله ، فإنني أجد في قول الأستاذ حازم نهار حول هذه المسألة ” إذ من خلال رؤية بسيطة للتجارب السياسية والحزبية السابقة كافة، نرى أن الذات الفردية وخصوصياتها ومكنوناتها الداخلية كانت تموت أو تُسحق باسم المشروع الوطني الجماعي، لذلك نقول هنا: إن المشروع الوطني لا يغتني إلا بالفرد، والعمل الجماعي الذي يسحق الفرد لن يُكتب له النجاح.” 
 إن ما أنتج في العقود الخمسة الماضية  يتطلب مقاربة جديدة للكثير من المفاهيم التي باتت مُلْزَمة أن تستمد أهميتها في توافقها مع الواقع وحركته،  ووجوب انسجامها مع ضروراتها المرحلية لاستنهاض المجتمع،عبر سياق تطوري طبيعي مبني على قيم الحداثة.
لابد أن نقرر بداية أن الأحزاب هي الإطار المركزي لاستقطاب نشاط الناس ، ومشاركتهم في صنع القرار السياسي ضمن فضائه الأوسع ،حيث يجب أن يتناسق مع الاستراتيجية .

وهذا يتطلب جهداً كبيراً وفهماً متبادلاً لماهية العلاقة ، مما يفرض التخلي عن سلوكيات حزبوية نابعة من آثار أدلجة العمل السياسي في عقود القرن العشرين .

فقيم الحداثة هي  وحدها التي تكشف وتحدد ملامح العلاقة بين الحالة الفردية وبين المؤسسة الحزبية ، وهنا لابد من الإشارة بان القصور في الرؤية الفردية خلال عملها الجمعي ، تدفع إلى سلوك في بعض الأحيان ينحو منحى تطرفيا تحت غطاء حرية العمل أو الرأي ، وبالتالي يؤدي الى الإساءة لمفهوم الموضوعية ، مما يدل على أن تشكيل الرؤية الفردية يحتاج الى دراسة وفهم لجذر المسالة وتعقيداتها .

ويمكننا إن نأخذ تجربة إعلان دمشق نموذجا ، حينما تحولت إدارته من لجنة التنسيق إلى المجلس الوطني لإعلان دمشق ، فبدأت تطبيقاتها العملية تفرز شوائب وسلبيات عديدة ، ولدّت ثنائية مقيتة في عدم قبول كل طرف من الثنائية للآخر، وكأنه لا توجد قواسم مشتركة بينهما ، مما نشط عملية نفي  لبعضهما البعض .

والتجربة الكردية لا تختلف كثير عن مثيلاتها في هذا المجال ، لكوننا جميعا نعيش في بيئة موبوءة  بالأمراض ذاتها .

مع ملاحظة الفارق في أسبقية طرح المشروع من قبل المجلس العام للتحالف على الساحة السياسية السورية ، وتوفر القناعة والإرادة اللازمة  لدى أطراف المجلس لوضع المشروع في سياقه الطبيعي ، رغم كل المنغصات التي رافقت عمل المجلس العام للتحالف طيلة السنوات الماضية.
وقد نجح المجلس العام للتحالف الديمقراطي الكردي في سوريا إلى حد ما ، في الترويج لثقافة المشاركة المجتمعية في الحراك السياسي ونشره ، عبر إعلانه لمشروعه حول المرجعية، وترابطه البنائي الجدلي مع مبدأ التفاعل بين مكونات المجتمع ، ودعوته الملحة إلى تغذية النشاط السياسي بفئات متعددة من المستقلين ، ليشهد الحراك السياسي الكردي حيوية وانسجاماً  وضبطاً للكثير من القضايا الحساسة والمفصلية ، مظهراً قناعة التحالف بأن الفرد المستقل يعبر عن قناعاته من زاوية تختلف عما هو سائد في ساحة الأحزاب السياسية ، وأنه لا يتعامل بذهنية الحزبية الضيقة ،ولايا خذ في مساهماته الخصوصية الحزبية النفعية الآنية.

 بل تأتي مجمل تصوراته مبنية على قاعدة تصويب وتقويم مسار العمل السياسي ، على نحو سليم تنسجم مع  تشكيل مرجعية تمثل الكرد .

ان هذا المشرع المطروح من قبل المجلس العام للتحالف يجب أن يرتكز على جذر ثقافي ، لكي يستمد مشروعيته من قيم فكرية قبل أن يكون له بعد سياسي.

ويتضح هذا الاتجاه من خلال الممارسة السياسية للمجلس العام للتحالف خلال محطات مختلفة، ولاسيما أذا أخذنا في اعتبارنا التأثيرات السلبية للبيئة السياسية القائمة على التجاذبات الوهمية ، التي أدت إلى الخلل في التركيبة السياسية الكردية ، وهو ما أفرز واقعا جديدا على الساحة السياسية الكردية.

إن خطوات المجلس العام للتحالف ـ رغم بطئها ـ تبقى رصينة ومتوازنة في اتجاهاتها المتعددة ، وما شكله اجتماع “جول بسان” من نقلة نوعية ، يفرض على صعيد التجربة أن يتبعه بخطوات لاحقة توسع من دائرة المشاركة.

مما يجعل تفاعلات الحراك تتناسب مع مساحة الممكن .

وقدرات الإطار المركزي (حاضنة المشروع أي الأحزاب) في التكيف مع الحالة التي هي تطبيقات العملية للمشروع .

    
  إن كل هذا يدخل في سياق إعادة التأسيس لحالة نوعية في الساحة السياسية الكردية ، بما ينسجم مع حركة الواقع ومتطلباته ، حيث تُظْهِر الوقائع المتحققة أن مشروع الحداثة لأي دولة من الدول ، ليس عبارة عن شعارات ترفع ، تدفع إلى أن تؤدي الممارسات في ثنائية الدولة والمواطن إلى إنتاج نقيضها.

لأن جوهر هذه الشعارات المرفوعة يركز على حضور الدولة /السلطة كناتج جديد في الحداثة ، وهو ما يعرض الفرد في تفاعله مع سلطات الدولة الحديثة الواسعة إلى أن يلوِّن ذاته بغير الصدق المطلوب من المواطن وهو ما عبر عنه الأستاذ سعد الله ونوس خير تعبير حين يقول : “إن المشروع الوطني بما يعنيه من تحرّر وتقدم وحداثة لا يقتضي أن نلغي أنفسنا كأفراد لنا أهواؤنا ونوازعنا ووساوسنا وحاجاتنا الملّحة للحرية ، ولقول الأنا دون خجل … بل بالعكس إن هذا المشروع الوطني لا يمكن أن ينجح ويتحقق إلا إذا تفتّحت هذه (الأنا) ومارست حريتها ، وقالت نفسها دون حياء ودون مراءة أو تعوّذ .

أُضيف إلى المهّمة النقدية التي يجب أن يضطلع بها المثقف مهمة أخرى، وهي أن يحاول ممارسة حرّيته ، وأن يحب فرديته ، وألا يعتقد أنه إذا ما اغتنى كوجود فردي إنّما يمزّق شمل الجماعة”.
إن هذه الورقة تريد أن تؤكد أن أهمية دور الأحزاب في تشكيل النشاط السياسي في الدولة الحديثة ، لا يجوز أن ينهي في وطننا السوري دور الإنسان المواطن ، الذي ما زالت نماذج منه قادرة على أن تساهم بالعمل السياسي متفاعلة مع نشاط الأحزاب ، لتغني هذا النشاط وتمنحه الطاقة الكاملة لتحقيق أهدافه الوطنية .


إن المجلس العام للتحالف الديمقراطي الكردي في سوريا هو مشروع لتحقيق التوازن المطلوب بين الأحزاب والمستقلين في العمل السياسي.

وإذا كانت هناك ملاحظات على هذه التجربة فأنا لا أدّعي كمال المشروع ، بل هي في طريقها التفاعلي لتكون نموذجاً سوريّاً يحتذى .


كاتب كردي سوري

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…