دهام حسن
– توطئة –
– توطئة –
من المعلوم أن السياسة تنبني على الاقتصاد في أشكال تمظهرها وطرائق نضالها وحركتها، حيث تقوم السياسة بنقد الحالة الاقتصادية السائدة وتقويمها، لأن السياسة بلغة أخرى تعبير فكري عن المصالح الاقتصادية، من حيث علاقات الإنتاج، والقوى المنتجة، وشكل الاستئثار بالثروات والتملك والحرمان والتوزيع..
وينجم بالتالي عن ذلك فريق متعدد المشارب الفكرية، وقد تمخض جراء ذلك بشكل جلي وواضح، وإثر صراعات سياسية عاصفة، عن ظهور وتبلور أيديولوجيات طبقية تعبيرا عن مصالح هذه الجهة أو الفئة أو الطبقة أو تلك، كما جرت تغييرات جيوسياسية في العالم،
وينجم بالتالي عن ذلك فريق متعدد المشارب الفكرية، وقد تمخض جراء ذلك بشكل جلي وواضح، وإثر صراعات سياسية عاصفة، عن ظهور وتبلور أيديولوجيات طبقية تعبيرا عن مصالح هذه الجهة أو الفئة أو الطبقة أو تلك، كما جرت تغييرات جيوسياسية في العالم،
فظهرت أول دولة في روسيا بنمط جديد من السياسة على أسس مذهب الشيوعية، يخترق الكيان الرأسمالي في مواطن ضعفه وتأخره، وسرعان ما تم تمدده في أصقاع العالم..
كما ظهرت النازية في ألمانيا، والفاشية في كل من إيطاليا وإسبانيا، عندما تيسر للبرجوازية الصغيرة من التحكم في الدول الرأسمالية الثلاث، إثر انقلابات عسكرية وفي غفلة من الزمن مستغلة ضعف الطبقتين المتصارعتين، الرأسمالية والبروليتاريا، وكان ذلك خلافا لمنطق التاريخ وسيرورته الطبيعية، وقد توجت تلك الصراعات بحربين عالميتين جرتا في النصف الأول من القرن العشرين، نجمت عنهما ضحايا وكوارث ضخمة وفظيعة، شملت الإنسان والطبيعة..
وتطلعت كثير من الشعوب إلى الانعتاق والتحرر من النير الاستعماري، فاجتاحت ثورات التحرر الوطني لتغطي قارات آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وثورات التحرر الوطني هذه اعتبرت رديفا للثورة الاشتراكية في روسيا أو في الاتحاد السوفييتي فيما بعد، أو للمنظومة الاشتراكية ككل في أوج عنجهيتها وعسكريتها..
كما شهدت دول أنظمة ديمقراطية تركزت على الليبرالية كمذهب في ممارسة السلطة السياسية، وإدارة الاقتصاد، فتحمس لها الكثيرون، وتجلت وكأنها أيديولوجية المستقبل برأي الكثيرين، رغم ما قوبلت من انتقادات من قبل اليسار خاصة المتأثر بالفكر الاشتراكي، ومن قبل اليمين أيضا جراء الخلط في كثير من مفاهيمها..
– الموضوع –
من الطبيعي بالنسبة للإنسان الفرد، وفي خضم هكذا صراعات، من أن يستمد وعيه من تلك الظروف التي أحاطت به وشكلته بهذه الصورة أو تلك، وشق عليه بالتالي التحرر من هذا الإرث الثقيل، فانخرط في نضال مؤطّر غالبا بإسار أيديولوجية ما، تحت وطأة مصلحة ذاتية، أو حتى طبقية، أو جاذبية المحيط الذي شكل وعيه، ثم ظهر أمامه العديد من المكونات السياسية، فكيف يختار.؟ وكيف ينتهي به المطاف في رحلته السياسية..!؟ وفي أي منحى يسير ويستقر به السبيل، فهذا ما لا نستطيع التكهن به، فندع الفرد وشأنه وقناعاته…
فالثورة العربية قامت مسلحة بالأيديولوجية القومية، فاستأثرت باهتمام الكثيرين، وانداروا إليها عاطفيا دون عناء تفكير، مأخوذين بشعاراتها القومية الزاعقة، وكثيرا ما كانت تتلبس بالشعارات الطبقية، وأيضا تمظهرت بلبوس علمانية ربما جذبا للعنصر المسيحي، أو أن روادها كانت غالبيتها من المسيحيين، كما كانت تتماهى بالشعارات اليسارية ذات الصبغة الاشتراكية باعتبارها (الثورة العربية) تدخل ضمن ثورات التحرر الوطني العالمية بالضد من السيطرة الأجنبية، أو الهيمنة الاستعمارية..
القوميون العرب لم يتمكنوا من تحقيق الحلم العربي في بناء دولة مركزية تنعم شعوبها بالأمن والحرية والرفاه، فقد نكلوا بشعوبهم بعد الاستقلال، ولا داعي لسرد المشاهد والكوارث المفجعة، ناهيك عن التضييق على الحريات، والقضاء على أصحاب أحلام المشاريع النهضوية والتنموية، والحيلولة دون امتداد وتوسع حركاتهم فالتنمية الاجتماعية والاقتصادية كانت دوما مؤجلة بذرائع واهية…
أما الماركسيون العرب بمختلف أطيافهم فقد تشرذموا أخيرا في حلقات حزبية لم تستطع من تحقيق ذلك الحلم أو حتى من تجديد نفسها، فمازالت كثير من أطيافها تبكي على الأطلال الدارسة وتترنم ثانية بأحلامها الطوباوية وبذات الأسلوب واليقين..
لكن الصورة تبقى أدهى وأمر عند الإسلاميين، فهؤلاء ما زالوا مشدودين إلى القرن السابع الميلادي، يحلمون في بناء دولة مركزية على شاكلة دولة الإسلام، أي إبان حكومة الإسلام الأولى، بعد رسالة النبي محمد (ص)، فرغم مناداتهم بأن الإسلام هو الحل، وهو يؤسس لدولة مركزية، وأن الإسلام هو ضد الحكم القبلي، لكنهم يتناسون أن كل الحكومات التي تعاقبت على الحكم في دولة الإسلام كانت حكومات قبلية منذ خلافة قريش، فالأمويون منها ثم العباسيون فالبويهيون والحمدانيون والأيوبيون والسلاجقة وسواهم.
حيث كانت الحكم حكم القبائل..
أما حركة التحرر الوطني العربية ككل بما كان لها من دور وزخم، وبما كانت تضم فصائل متعددة رغم التباين في الرؤى والأهداف، فقد خبت جذوتها، ولم يعد لديها ما تقوله لقد انتهت منذ زمن وانزوت في خبايا التاريخ العربي..
إن كل هذه الحركات أو الفصائل النضالية التي غطت الساحة العربية، من (القوميين والاشتراكيين والإسلامويين والليبراليين….) والتي شكلت في يوم ما حركة وطنية تحررية، جابهت الاحتلال أولا، وبعدها منها من تطلعت إلى السلطة، لتنسف وتعصف بكل ما قالته ونادت به من شعارات بعد أن تحقق الاستقلال، ومنها من واجهت الاستبداد، وسلكت النضال الطويل …
قبل المضي في هذا الجانب، نقول أن التيار الليبرالي لم يتبلور في بدايات النضال العربي في الفترة الممتدة من النصف الثاني من القرن التاسع عشر حتى نهاية الحرب العالمية الثانية مع الإشارة إلى بواكير تفتحها في مصر مثلا ظهرت في مفاهيم بعض الرواد أمثال أحمد لطفي السيد، ثم حزب الوفد المصري، لكن لم يكن لها الشأن المؤثر على النطاق العربي، لاسيما أن كثيرا من مفاهيمها اقترنت بالرأسمالية والاحتلال،…
بعد الحرب العالمية الأولى ظهرت الليبرالية كاتجاه في المعمعان السياسي أيضا باندفاع جديد وكأنها أيديولوجية المستقبل، والبديل الممكن لكثير من الحركات الجاثمة على فكر الإنسان العربي، رغم التباين بين أطروحات متبنيها، لتنتصر في النهاية وتعتمد وصفة جون ماينرد كينز (1883- 1946) أو ما عرفت بالكينزية، وما حوت الوصفة من برامج الرعاية الصحية، والتأمين عند العجز أو البطالة أو غيرها، لتستمر هذه الوصفة حتى عام 1970 كحد تاريخي متداول، لتظهر الليبرالية من جديد بثوب آخر بالضد من كل هذه الضمانات، وهذا ما عرف لاحقا بالليبرالية الجديدة، وكان من أبرز روادها الاقتصادي النمساوي الشهير فريدرك هايك (1899- 1992) على العموم..
الليبرالية لم تتجذر ولم تتبلور في الساحة السياسية العربية إلى اليوم كاتجاه سياسي، أو كاتجاه سياسي كبير، رغم أنني أراها تخطو خطوات متفائلة إلى أمام، لتشغل مكانة متقدمة في الحقل السياسي العربي رغم الالتباس الذي يكتنف مفاهيمها، والاختلاف حولها..
نعود ثانية إلى الفصائل التي اعتبرت كنواة لحركة التحرر الوطني العربية أو لم تعتبر برأي البعض الآخر..
فسرعان ما دار بين تلك الحركات من صراع دام؛ فالقوميون الذين كان من أولى مهامهم النضالية (التحرير ثم التنمية) لكن بعد أن تم التحرير وتبوؤوا سدة الحكم، تنكروا لمشاريع التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وانداروا إلى حلفاء الأمس بالقمع والتنكيل بهم، فوجدنا مشاهد مروعة من قبل القوميين بحق اليساريين وسواهم، بل بحق شعوبهم، وكان العراق مثالا فاقعا لتلك الممارسات الديكتاتورية الدامية..
أما الحركات الإسلامية، فقد فشلت هي الأخرى، فأعطت العالم صورة للإسلام مفزعة فظيعة، تجلت في أعمال العنف التي مارستها القاعدة وسواها، عندما توسلت الإرهاب كأجندة (نضالية)..
واليسار العربي لا يخفى ما آل به الوضع من انقسام وانحسار، أو البقاء على الفكر التقليدي، والتكيف مع الواقع الجديد دونما نضال يذكر، بالطبع من دون تعميم قطعي..
والقوميون العرب رغم تاريخهم النضالي المجيد فالعزف على السيمفونية القومية لم يعد محمودا، فسرعان ما غلب عليها طابع العنصرية، وغدا همهم الأول والأخير هو الاستيلاء على السلطة والتفرد بإدارة الحكم، وبالتالي الانكفاء على الذات أو التحرش بالدول المجاورة..
جميع هذه الحركات دون استثناء، لم تعش حياة ديمقراطية في داخل أحزابها حتى تطالب بالديمقراطية داخل بلدانها، بل أن بعضها رأت في الديمقراطية صناعة غربية لا يمكن استيرادها، أو إسقاطها على الواقع العربي المغاير، لهذا جاءت إثارتها خجولة، من بعض كتابات الرواد وبعض المتنورين..
فبين أكثر من عشرين بلدا عربيا، لم يشهد أيّ منها حياة ديمقراطية، على العموم لا مجال هنا للبحث في الديمقراطية، فقد سبق لنا أن عرضناها في تناولات سابقة…
نستطيع أن نقول أخيرا، إن من جاءت وخطفت السلطة، سرعان ما ألقت بظلالها الاستبدادي على كل البلاد، وتحكمت في رقاب الناس، وتنكرت لكل ما كانت ترفعه هي من شعارات، وبالتالي فمن تيسر لها الحكم، وتحت أية تسمية كانت، لم تكن أقل تشددا من سواها في الاستبداد، وكأنما لسان حالهم يقول: (إنما العاجز من لا يستبد)..
على العموم هذا هو المشهد كما يتراءى لي، ولعل السنوات أو العقود القادمة تصحح من الواقع الراهن، فالتغيير والتطوير نحو الأحسن، تحتمه الأخلاق، ويقتضيه النضال، لأنهما أصل التواصل وسنة الحياة، وتفرضهما تطلعات الشعوب نحو وجود أفضل…!
كما ظهرت النازية في ألمانيا، والفاشية في كل من إيطاليا وإسبانيا، عندما تيسر للبرجوازية الصغيرة من التحكم في الدول الرأسمالية الثلاث، إثر انقلابات عسكرية وفي غفلة من الزمن مستغلة ضعف الطبقتين المتصارعتين، الرأسمالية والبروليتاريا، وكان ذلك خلافا لمنطق التاريخ وسيرورته الطبيعية، وقد توجت تلك الصراعات بحربين عالميتين جرتا في النصف الأول من القرن العشرين، نجمت عنهما ضحايا وكوارث ضخمة وفظيعة، شملت الإنسان والطبيعة..
وتطلعت كثير من الشعوب إلى الانعتاق والتحرر من النير الاستعماري، فاجتاحت ثورات التحرر الوطني لتغطي قارات آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وثورات التحرر الوطني هذه اعتبرت رديفا للثورة الاشتراكية في روسيا أو في الاتحاد السوفييتي فيما بعد، أو للمنظومة الاشتراكية ككل في أوج عنجهيتها وعسكريتها..
كما شهدت دول أنظمة ديمقراطية تركزت على الليبرالية كمذهب في ممارسة السلطة السياسية، وإدارة الاقتصاد، فتحمس لها الكثيرون، وتجلت وكأنها أيديولوجية المستقبل برأي الكثيرين، رغم ما قوبلت من انتقادات من قبل اليسار خاصة المتأثر بالفكر الاشتراكي، ومن قبل اليمين أيضا جراء الخلط في كثير من مفاهيمها..
– الموضوع –
من الطبيعي بالنسبة للإنسان الفرد، وفي خضم هكذا صراعات، من أن يستمد وعيه من تلك الظروف التي أحاطت به وشكلته بهذه الصورة أو تلك، وشق عليه بالتالي التحرر من هذا الإرث الثقيل، فانخرط في نضال مؤطّر غالبا بإسار أيديولوجية ما، تحت وطأة مصلحة ذاتية، أو حتى طبقية، أو جاذبية المحيط الذي شكل وعيه، ثم ظهر أمامه العديد من المكونات السياسية، فكيف يختار.؟ وكيف ينتهي به المطاف في رحلته السياسية..!؟ وفي أي منحى يسير ويستقر به السبيل، فهذا ما لا نستطيع التكهن به، فندع الفرد وشأنه وقناعاته…
فالثورة العربية قامت مسلحة بالأيديولوجية القومية، فاستأثرت باهتمام الكثيرين، وانداروا إليها عاطفيا دون عناء تفكير، مأخوذين بشعاراتها القومية الزاعقة، وكثيرا ما كانت تتلبس بالشعارات الطبقية، وأيضا تمظهرت بلبوس علمانية ربما جذبا للعنصر المسيحي، أو أن روادها كانت غالبيتها من المسيحيين، كما كانت تتماهى بالشعارات اليسارية ذات الصبغة الاشتراكية باعتبارها (الثورة العربية) تدخل ضمن ثورات التحرر الوطني العالمية بالضد من السيطرة الأجنبية، أو الهيمنة الاستعمارية..
القوميون العرب لم يتمكنوا من تحقيق الحلم العربي في بناء دولة مركزية تنعم شعوبها بالأمن والحرية والرفاه، فقد نكلوا بشعوبهم بعد الاستقلال، ولا داعي لسرد المشاهد والكوارث المفجعة، ناهيك عن التضييق على الحريات، والقضاء على أصحاب أحلام المشاريع النهضوية والتنموية، والحيلولة دون امتداد وتوسع حركاتهم فالتنمية الاجتماعية والاقتصادية كانت دوما مؤجلة بذرائع واهية…
أما الماركسيون العرب بمختلف أطيافهم فقد تشرذموا أخيرا في حلقات حزبية لم تستطع من تحقيق ذلك الحلم أو حتى من تجديد نفسها، فمازالت كثير من أطيافها تبكي على الأطلال الدارسة وتترنم ثانية بأحلامها الطوباوية وبذات الأسلوب واليقين..
لكن الصورة تبقى أدهى وأمر عند الإسلاميين، فهؤلاء ما زالوا مشدودين إلى القرن السابع الميلادي، يحلمون في بناء دولة مركزية على شاكلة دولة الإسلام، أي إبان حكومة الإسلام الأولى، بعد رسالة النبي محمد (ص)، فرغم مناداتهم بأن الإسلام هو الحل، وهو يؤسس لدولة مركزية، وأن الإسلام هو ضد الحكم القبلي، لكنهم يتناسون أن كل الحكومات التي تعاقبت على الحكم في دولة الإسلام كانت حكومات قبلية منذ خلافة قريش، فالأمويون منها ثم العباسيون فالبويهيون والحمدانيون والأيوبيون والسلاجقة وسواهم.
حيث كانت الحكم حكم القبائل..
أما حركة التحرر الوطني العربية ككل بما كان لها من دور وزخم، وبما كانت تضم فصائل متعددة رغم التباين في الرؤى والأهداف، فقد خبت جذوتها، ولم يعد لديها ما تقوله لقد انتهت منذ زمن وانزوت في خبايا التاريخ العربي..
إن كل هذه الحركات أو الفصائل النضالية التي غطت الساحة العربية، من (القوميين والاشتراكيين والإسلامويين والليبراليين….) والتي شكلت في يوم ما حركة وطنية تحررية، جابهت الاحتلال أولا، وبعدها منها من تطلعت إلى السلطة، لتنسف وتعصف بكل ما قالته ونادت به من شعارات بعد أن تحقق الاستقلال، ومنها من واجهت الاستبداد، وسلكت النضال الطويل …
قبل المضي في هذا الجانب، نقول أن التيار الليبرالي لم يتبلور في بدايات النضال العربي في الفترة الممتدة من النصف الثاني من القرن التاسع عشر حتى نهاية الحرب العالمية الثانية مع الإشارة إلى بواكير تفتحها في مصر مثلا ظهرت في مفاهيم بعض الرواد أمثال أحمد لطفي السيد، ثم حزب الوفد المصري، لكن لم يكن لها الشأن المؤثر على النطاق العربي، لاسيما أن كثيرا من مفاهيمها اقترنت بالرأسمالية والاحتلال،…
بعد الحرب العالمية الأولى ظهرت الليبرالية كاتجاه في المعمعان السياسي أيضا باندفاع جديد وكأنها أيديولوجية المستقبل، والبديل الممكن لكثير من الحركات الجاثمة على فكر الإنسان العربي، رغم التباين بين أطروحات متبنيها، لتنتصر في النهاية وتعتمد وصفة جون ماينرد كينز (1883- 1946) أو ما عرفت بالكينزية، وما حوت الوصفة من برامج الرعاية الصحية، والتأمين عند العجز أو البطالة أو غيرها، لتستمر هذه الوصفة حتى عام 1970 كحد تاريخي متداول، لتظهر الليبرالية من جديد بثوب آخر بالضد من كل هذه الضمانات، وهذا ما عرف لاحقا بالليبرالية الجديدة، وكان من أبرز روادها الاقتصادي النمساوي الشهير فريدرك هايك (1899- 1992) على العموم..
الليبرالية لم تتجذر ولم تتبلور في الساحة السياسية العربية إلى اليوم كاتجاه سياسي، أو كاتجاه سياسي كبير، رغم أنني أراها تخطو خطوات متفائلة إلى أمام، لتشغل مكانة متقدمة في الحقل السياسي العربي رغم الالتباس الذي يكتنف مفاهيمها، والاختلاف حولها..
نعود ثانية إلى الفصائل التي اعتبرت كنواة لحركة التحرر الوطني العربية أو لم تعتبر برأي البعض الآخر..
فسرعان ما دار بين تلك الحركات من صراع دام؛ فالقوميون الذين كان من أولى مهامهم النضالية (التحرير ثم التنمية) لكن بعد أن تم التحرير وتبوؤوا سدة الحكم، تنكروا لمشاريع التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وانداروا إلى حلفاء الأمس بالقمع والتنكيل بهم، فوجدنا مشاهد مروعة من قبل القوميين بحق اليساريين وسواهم، بل بحق شعوبهم، وكان العراق مثالا فاقعا لتلك الممارسات الديكتاتورية الدامية..
أما الحركات الإسلامية، فقد فشلت هي الأخرى، فأعطت العالم صورة للإسلام مفزعة فظيعة، تجلت في أعمال العنف التي مارستها القاعدة وسواها، عندما توسلت الإرهاب كأجندة (نضالية)..
واليسار العربي لا يخفى ما آل به الوضع من انقسام وانحسار، أو البقاء على الفكر التقليدي، والتكيف مع الواقع الجديد دونما نضال يذكر، بالطبع من دون تعميم قطعي..
والقوميون العرب رغم تاريخهم النضالي المجيد فالعزف على السيمفونية القومية لم يعد محمودا، فسرعان ما غلب عليها طابع العنصرية، وغدا همهم الأول والأخير هو الاستيلاء على السلطة والتفرد بإدارة الحكم، وبالتالي الانكفاء على الذات أو التحرش بالدول المجاورة..
جميع هذه الحركات دون استثناء، لم تعش حياة ديمقراطية في داخل أحزابها حتى تطالب بالديمقراطية داخل بلدانها، بل أن بعضها رأت في الديمقراطية صناعة غربية لا يمكن استيرادها، أو إسقاطها على الواقع العربي المغاير، لهذا جاءت إثارتها خجولة، من بعض كتابات الرواد وبعض المتنورين..
فبين أكثر من عشرين بلدا عربيا، لم يشهد أيّ منها حياة ديمقراطية، على العموم لا مجال هنا للبحث في الديمقراطية، فقد سبق لنا أن عرضناها في تناولات سابقة…
نستطيع أن نقول أخيرا، إن من جاءت وخطفت السلطة، سرعان ما ألقت بظلالها الاستبدادي على كل البلاد، وتحكمت في رقاب الناس، وتنكرت لكل ما كانت ترفعه هي من شعارات، وبالتالي فمن تيسر لها الحكم، وتحت أية تسمية كانت، لم تكن أقل تشددا من سواها في الاستبداد، وكأنما لسان حالهم يقول: (إنما العاجز من لا يستبد)..
على العموم هذا هو المشهد كما يتراءى لي، ولعل السنوات أو العقود القادمة تصحح من الواقع الراهن، فالتغيير والتطوير نحو الأحسن، تحتمه الأخلاق، ويقتضيه النضال، لأنهما أصل التواصل وسنة الحياة، وتفرضهما تطلعات الشعوب نحو وجود أفضل…!