بين المثقف والسياسي يوسف فيصل نموذجاً

بلند حسن

لم ألتقِ به سوى مرتين اثنتين، واللقاءُ لم يكن خاصاً بيني وبينه، ففي اللقاء الأول كان ثمّة ما يشبه حواراً حول موضوعٍ يتعلق ببعض المصطلحات الفلسفية والسياسية، أبدى بعض المثقفين والساسة وجهات نظرهم حول مفاهيمها العامة، وفي اللقاء الثاني التقيتُ به صدفةً في منزل الشاعر إبراهيم اليوسف بمناسبة تتعلق (بعزاء أو ماشابه ذلك، لا يفجعكم الله بعزيز) وفي اللقائين بدا لي الأستاذ فيصل شخصية تتميز بالذّكاء، والحنكة السياسية، ويطرح رأيه باقتضاب ودقة.

دار حديثٌ قصير حول أمور عامة بين الجالسين، كان يعرف كيف يصوغ فكرته عند الطّرح.

عند ذاك طرحتُ على أحد الأصدقاء، بعد رجوعنا، فكرة تولي السيد فيصل دفة إدارة التنظيم للتقدمي خلفاً للسيد حميد، كونه يمتلك قدراتٍ جيدة تمكّنه من تفعيل دور حزبه، وتطويره إلى آفاقٍ أرحب، فردّ لي بأنّ قراراً كهذا سيكون بيد سكرتيره وحزبه، ولو كنا نملك الصلاحية والقدرة لفعلنا ذلك.

وعندما قرأنا تصريح التقدمي بشأن علاقته بالأستاذ فيصل، عرفتُ بأن المحنة التي سيعانيها عاشها قبله كثيرون، وما قام به من تضحيات وعمل سياسي للفترة الطويلة التي قضاها سيبتلعُه الاستبدادُ الحزبيُّ المُستحكِم بتنظيمه.

فالحالةُ التي أوصلت فيصلَ إلى هذا المصير هي صناعة العلاقة بين السياسي المثقف، (المثقف السياسي إنْ شئنا) وبين المستبد السياسي، أو السياسي المستبد.
محنة المثقف السياسي أمام السياسي المُفَرمِل لحركة التاريخ لها أوجهٌ كثيرة، حيث يصطدم الأول بالتكلّس الفكري لدى الثاني القابض على مصالحه بقوّة، والضارب بعرض الحائط المصلحة العامة، وما قدمه ويقدّمه ذاك المثقف.
الغريب في الأمر أنَّ منْ يتسلّم موقع المسؤولية (عند معظمهم يُعَدُّ منصباً) في التنظيم الحزبي الكردي، يتحوّل مع مرور الزمن من مناضل ديمقراطي يضحّي بكلّ مصالحه من أجل قضيته النّبيلة، إلى مُستبِدٍّ نفعيٍّ يُضحِّي بالقضية لأجلّ مصالحه.

والأمثلة على هذا أكثر مما يمكن إحصاؤه، وهذه الحالة متجذِّرة في الأحزاب الكردية كلّها، ومزمنة في مفاصل وتفاصيل الهياكل التنظيمية، وليس من السهولة التّخلص منها على المدى المنظور، والذين سيصبحون ضحايا الحالة المرضية هذه كثيرون، وعددهم في ازدياد.

وكأنّ هذه الأحزاب من حيث الذهنية والرؤية في تحليل الحوادث مستنسخة من بعضها بعضاً، والأمر كذلك عند الأحزاب السياسية كلّها في الشرق الأوسط وهي خارج السلطة، فكيف بها لو استلمت السلطة.
من خلال قراءة الحالات المشابهة للأستاذ فيصل، يُلاحظُ أنَّها أوصلت الأزمة إلى حالات مستعصية على الحل، وسدّت أمام أمثاله كلّ الأبواب، لأنّ التعامل الديمقراطي غائبٌ كليّاً من الذهنية الكردية المسيطرة، فلم يجد هؤلاء أنفسهم إلا أمام خيارين أحلاهما حنظلة: اللجوء إلى تأسيس تنظيم سياسي ضعيف، والبحث عن موطئٍ اعترافٍ لنفسه في مستنقع الأحزاب الكردية، وهذا الخيار لا أتوقع أن يُقدِمَ السيد فيصل عليه، لعدم توفر المناخات السياسية في الوقت الحالي، أو الارتكاس إلى ما يحفظ ماء الوجه، وابتلاع مرارة الفشل، تنظيمياً وليس سياسياً، والنزول من صهوة الحصان السياسي تاركاً معارك الكرّ والفرّ لِمَنْ يُجيد فن المراوغة على النّاس، كما أنّ الحلول الممكنة حالياً حظوظها قليلة، وربما نادرة، ولو كانت مسائل الكرد التنظيمية تُحَلُّ ديمقراطياً لما كان هناك هذا التزايد البارامسيومي في الساحة الغبراء.
قد يكون لدى السيد فيصل قدرات أكثر مما لدى الكثيرين مِمَن يتحكمون برقاب الأحزاب من الصّف الأول، إن لم يكن على رأسهم، لكن ذلك ليس مبرّراً كي يُعلن ولادة جديدة.

لأنّ مثل هذه الولادة لن تكون سوى إضافة رقمٍ آخر على العدّاد.
وفي نفس الوقت قد يكون تصحيح الأوضاع في حزبه مستحيلاً، فالسيد السكرتير استخدم فأساً بتّاراً (اللجنة المركزية) لقطع غصون السنديان، وقد يكون التطعيمُ السياسي أقرب الحلول وإنْ لم يكنْ في شجرته.

أتمنى كل الخير لك يا فيصل يوسف، وإنْ خسرتَ التنظيم فأنّك لم تخسر السياسة، فخسارة معركة لا تعني خسارة الحرب.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…